“الحرف” قطاع اقتصادي على شفير الموت… دراسات معمقة ومشروع قانون سعياً لإنعاشه


أخبار بارزة, خاص 21 كانون الأول, 2021

كتبت رانيا حمزة لـ “هنا لبنان”:

عندما نبحث في الصور التراثية للبنان دائماً ما تتجلى أمامنا الزجاجيات وأواني الفخار والنحاس والملابس الفولكلورية المزركشة بأجمل التطاريز، طبعاً فهذه المنتجات تعد جزءاً لا يتجزأ من تاريخ لبنان وإرثه الثقافي والحضاري ولكن؟!

هل سبق لك أن زرت مطار العاصمة بيروت سائحاً كنت أم مغادراً؟ هل سبق أن تمشيت في أسواق جبيل أو هرولت في أروقة صور ودهاليز صيدا العتيقة؟ فإن فعلت ذلك من قبل، لا شك أنه لفت نظرك العديد من أواني الزجاج والفخار والتذكارات الجميلة التي ترمز إلى لبنان، ولكن إن نظرت إلى أسفل أي منتج يحمل رمزاً من رموز بلاد الأرز ستفاجأ بأن هذه المقتنيات الجميلة ليست صناعة وطنية وإنما جاءت من بلد آخر.

فأين ذهب فخار لبنان، الزجاجيات، الأقمشة وكل المنتجات الحرفية التي اشتهر بها؟؟

للأسف، عانى قطاع الحرف في لبنان، منذ فجر الاستقلال تراجعاً نتيجة غزوة المنتجات الخارجية المستوردة على حساب الإنتاج المحلي المميز والفريد من نوعه، وعلى الرغم من محاولات الإنعاش الخجولة إلا أن غياب دور الدولة في هذا المجال لعب دوراً في تراجع هذا القطاع وركوده. علماً أنه لو قُدّرت لهذا القطاع الجهات الداعمة اللازمة لأسهم بدرجة كبيرة في تحريك عجلة الاقتصاد شأنه في ذلك شأن العديد من الدول العربية والأجنبية.

ولعل توالي الأزمات الاقتصادية على لبنان، دفع ببعض أصحاب الحرف إلى التخلي عن المهنة التي توارثوها عن أجدادهم، سعياً وراء تأمين لقمة العيش، أو اتجاه الجيل الشاب نحو مواكبة العصر وانتهاج مسار مغاير لمسار آبائهم.

إبرة وخيط

لكن على الرغم من السوداوية التي تخيم على المشهد العام، إلا أنه لا يزال هناك من أصحاب الحرف الفنية الإبداعية، من يعرف قيمتها ويسعى لاستمرارها مهما اشتدت الظروف.

تعمل هدى صالحاني في مجال التطريز، وفي مشغلها الذي يدعى “إبرة وخيط” لا تقوم ببيع منتجاتها وحسب وإنما تسعى إلى نقل هذه المهنة للأجيال الشابة عن طريق القيام بدورات تدريبية في هذا المجال للراغبين شباناً وشابات.

استوحت “هدى” اسم المحل من أحاديث النساء في عائلتها: “كانت جداتنا، وأمهاتنا عندما يريدن إصلاح أي قطعة من الملابس، يطلبن منا إحضار الإبرة والخيط، من هنا جاء اسم المحل بسيطاً يعرفه الجميع ويدرك معناه. كل النساء في عائلتي عملن في مجال الخياطة والتطريز، وانطلاقاً من ذلك، وعلى الرغم من تطور نمط الحياة ودخولنا المدارس والجامعات، إلا أنني أحببت العودة إلى التراث الذي تربينا عليه وأحببناه بالفطرة”.

في مشغلها تصنع “هدى”، بالإبرة والخيوط الملونة أجمل اللوحات الفنية على مختلف أنواع القماش. وتقول إن “الآلة اليوم دخلت هذا القطاع من خلال ما يعرف بالتطريز الإلكتروني الذي يتم استخدامه لتلبية حاجات الأسواق الداخلية والخارجية في تطريز الملابس الموحدة uniform”.

ومع ذلك تقرّ بأن وجود الآلة لا يلغي أو يقلل من أهمية التطريز اليدوي لاسيما في تطريز الرسومات النافرة التي تحتاج إلى التعبئة ولديها جمالية معينة وكذلك التطريز على الحرير الذي قد تفسده الآلة.

وعن تأثر مهنة التطريز بالأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان قالت: “بتنا نكدس القسم الأكبر من البضائع التي ننتجها، لأن السوق جامدة ونعجز عن تأمين أبسط المصاريف كإيجار المحل مثلاً”..

أما عن دور الدولة اللبنانية في دعم هذا القطاع فقالت: “إنها تواكبنا في جباية الضرائب الحالية وملاحقتنا على الضرائب السابقة، لكن الدعم لا يحصل عليه إلا أصحاب المحسوبيات”.

نقيب الحرفيين يدق ناقوس الخطر

لا يزال في لبنان اليوم، عائلتان فقط تعملان في مجال صناعة الفخار: هما حسن خليفة في منطقة الصرفند. وكان هناك في السابق “جورج عريرو” في منطقة الميناء – طرابلس، وبعد وفاته تابع أولاده فؤاد وربيع وجميلة عمل والدهم. هذا ما قاله نقيب الحرفيين الفنيين حسن وهبة في حديثٍ لموقع “هنا لبنان”، كما أن هناك شخص واحد يعمل في صناعة الزجاجيّات وآخر في خياطة “اللبادة” وهي نوع من القبعات القديمة وفي حال توفي هؤلاء فإن هذا يعني نهاية الحرفة التي يعملون بها.

تأسست نقابة الحرفيين الفنيين في لبنان سنة 2001 وكان الهدف منها خلق إطار قانوني من أجل تنظيم المهنة وإقامة المعارض الحرفية. وعن واقع هذه المهنة قال وهبة أن: “معظم المهن الحرفية معرضة للانقراض بسبب عدم توارثها أو تعلميها للأجيال المستقبلية وعلى سبيل المثال نحن نتلقى العديد من الشكاوى عن نقص في اليد العاملة في التطريز وسواها من المهن”.

منحت وزارة الصناعة نقابة الحرفيين صالتين في مبناها، واحدة تحولت إلى مقر للنقابة وأخرى معدة لإجراء الدورات التدريبية للراغبين في تعلم بعض المهن الحرفية، ولكنها تحتاج إلى تجهيزها بالمعدات اللازمة لإقامة الورش التدريبية. وفي هذا السياق طالب النقيب وهبة المعنيين بالمساعدة على تجهيز هذه الصالة لأن هذه المسألة تسهّل عملية إحضار المدرب وبالتالي فتح الدورات التي تؤمن استمرارية المهن الحرفية الإبداعية في لبنان.

ويرى أن الفرصة سانحة اليوم، لاسيما أن معظم الناس، باتوا يبحثون عن مصادر دخل إضافية وبإمكان المهن الحرفية أن تلبي هذا الأمر. مشدداً على أهمية هذا القطاع في تحريك العجلة الاقتصادية فيما لو تم إيلاء الموضوع الاهتمام اللازم.

وأشار إلى أن عمل النقابة على الأرض، لم يظهر منذ البداية لأنه لم يكن لديها نظام داخلي، لكن على الرغم من الأوضاع الصعبة التي تمر بها البلاد إلا أن النقابة كثفت جهودها في السنتين الأخيرتين، وهي تعمل الآن مع عدة جمعيات من أجل إيصال قانون خاص بقطاع الحرفيين إلى مجلس النواب.

” نحن” تطلق سلسلة دراسات معمقة حول القطاع الحرفي

بتاريخ 18 كانون الأول 2021 أطلقت جمعية “نحن” مجموعة من الدراسات حول قطاع الحرف في لبنان، بالإضافة إلى ورقة السياسات العامة المقترحة لحماية وتفعيل العمل الحرفي في لبنان. شملت هذه الدراسات: الواقع القانوني والاقتصادي والاجتماعي للحرفيين. كما تخللها مسح شامل لأعداد الحرفيين في لبنان، والقيمة الاقتصادية التي يوفرها هذا القطاع. فضلاً عن دراسات قانونية مقارنة مع دول أخرى عملت على تطوير قطاع الحرف لديها، على اعتبار أنه جزء من الاقتصاد الوطني مثل المغرب وتونس وغيرها من البلدان.

وقد توصلت الجمعية بنتيجة هذه الدراسات إلى صياغة “ورقة السياسات العامة” التي جرى عرضها في خلال مؤتمر عقدته لهذه المناسبة، وتمت مناقشة هذه الورقة مع الحضور على أمل إتباعها بحملات مناصرة ومدافعة من أجل تبنيها من قبل السلطات المعنية.

واعتبرت الجمعية أن هذا القطاع يعاني العديد من المشاكل، أهم أسبابها تتمثل في غياب قانون واضح يقوم بتعريفها، كما أنه لا يوجد أي دراسة حول هذا القطاع، علماً أن لديه قيمة اقتصادية وتراثية فهو جزء من تراث لبنان ويرتبط بهويتنا الثقافية والتاريخية.

كذلك لجأت الجمعية إلى شركة اقتصادية للقيام بدراسة حول القيمة الاقتصادية الحالية لقطاع الحرف والمتوقع الذي يمكن الوصول إليه في حال جرى الاهتمام بهذا القطاع ومقدار مساهمته في الاقتصاد اللبناني.

وفي هذا السياق، لفتت الدكتورة غنى طبش إلى أن القيمة المضافة السنوية للقطاع الحرفي بالليرة اللبنانية تبلغ نحو 28,458,230,257.50 ل.ل.

وقالت إن هذه الدراسة تسعى “إلى بناء مؤشر القطاع الحرفيّ اللبناني حول كِلا المنظورين الثقافي والاقتصادي لتوفير أداة شاملة وقابلة للقياس لتحديد مساهمة القطاع الحرفيّ في الاقتصاد والمجتمع”.

الدعوة إلى تأسيس الهيئة الوطنية للحرف

ثم قدم الدكتور علي مراد مداخلة تناولت ورقة السياسات العامة المقترحة حول تطبيق قطاع الحرف ذات الطابع الإبداعي والتراثي في لبنان، وهي تتضمن السياق العام لتطور قطاع الحرف على مستوى العالم وعلى مستوى لبنان ومن ثم الرؤية العامة لهذه الدراسة التي تركز على مجموعة من التحديات القانونية والإدارية في سبيل تطوير القطاع.

وقد طرحت الدراسة مجموعة من الأسئلة البحثية حول أهم ملامح السياسات العامة في لبنان للصناعات اليدوية وكيف تطورت ومن هم أبرز الفاعلين الرسميين وغير الرسميين واقترحت إيجاد الحلول.

وقال مراد: “إن الدراسة تقترح تعريف الحرف ذات البعد التراثي والإبداعي كي تشمل عددًا من المعايير وهي: أولاً، ارتباط النشاط بالإبداع، أي بوجود إضافة فنية مميزة يقوم بها صاحب أو أصحاب العمل، ومن الممكن أن تكون إضافة شخصية مبتكرة حديثة تحديثية.

ثانياً، ارتباط النشاط بالإرث المادي وغير المادي للبلد أو لبعض المناطق على نحو خاص.

ثالثاً ارتباط النشاط بالمكان الريفي أو المديني إن كان من خلال مهارات متوارثة على المستوى العائلي أو المناطقي.

رابعاً، ارتباط النشاط بدرجة كبيرة بالعمل اليدوي أكثر منه بالأدوات الصناعية الكبيرة والمتوسطة.

وبناءً على هذه المعايير، وفي ظل الالتباسات حول مصطلح “حرف”، تجد الورقة ضرورة في عدم الاكتفاء بهذا المصطلح والذهاب إلى تحديد أوسع من خلال اعتماد مصطلح قطاع الحرف ذات الطابع التراثي والإبداعي، وهو يشمل كل الأنشطة الحرفية التي تمثل منتجاً يتميز بطابعه التراثي ويرتكز بشكل أساسي على المهارات اليدوية في معظم مراحل إنتاجه عبر تحويل المواد الأولية إلى منتج نهائي أو غير نهائي يحمل طابعاً فنياً إبداعياً، مع ارتباطه اجتماعياً وثقافياً بمكان الإنتاج أو مكان إقامة العاملين في القطاع، سواء أكان في الريف أم في المدينة”. ورأى أنه “بهذا المعنى فإن كل نشاط يجمع بين المعايير الثلاثة يمكن اعتباره أو إدخاله ضمن تعريف الحرف ذات الطابع الإبداعي والتراثي”.

كما لفت إلى نقطتين أساسيتين في الدراسة هما: خلق السجل الحرفي ودور هذا السجل في رعاية القطاع وتطويره ورفع الكفاءة لدى الحرفيين وتسهيل الوصول إلى الضمانات الصحية والاجتماعية”.

إعداد قانون خاص بالحرفيين

وفي حديث مع المدير التنفيذي لجمعية “نحن” محمد أيوب حول أبرز المشكلات التي واكبت إعداد سلسلة الدراسات هذه أجاب: “ان المشكلة الأساسية تكمن في غياب “داتا” واضحة حول أعداد الحرفيين. كما أنه لم يكن الجميع جاهزًا كي يتحدث عن تجربته أو أن يكون جزءاً من هذه الدراسة لعدة أسباب أبرزها غياب الحماية لهؤلاء”.

وعن السبب في عدم اهتمام أركان السلطة بهذا القطاع رغم أهميته قال إن “طريقة التعاطي مع هذا القطاع، تتم من خلال إنشاء شركات تستورد المنتجات من الخارج ولا تعترف بما هو محلي. وسأل هل من الصدفة أن مطار بيروت لا يحوي حرفاً لبنانية؟ هذه سياسة عامة، الشركات الكبرى تقوم بالاستيراد والبيع والتسويق على حساب الأفراد. وبالنسبة لنا إن ضرب قطاع الحرف في لبنان، هو بمثابة ضرب تاريخ وهوية بلد وقيمة مالية معينة وسمعة فريدة من نوعها”.

وختم قائلاً: “الآن أنهينا الدراسات وفتحنا باب الحوار في هذا السياق، لاحقاً سوف نطلق القانون بعد الاتفاق على شكله النهائي وسنقوم بزيارة الكتل النيابية من أجل التوقيع عليه”.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us