تحت جنح الرحيل


كتب راشد فايد لـ “هنا لبنان”:

كلّما ابتعدت واقعة 14 شباط 2005 في الزّمن، تأكّد بالوقائع اليومية أنّ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري لم يكن ليتحقّق لولا أنّه كان سدًّا في درب تفتيت لبنان، وجعله ساحةً إقليميّةً، ورهين صراع السيطرة على شرق البحر الأبيض المتوسّط، وزعزعة المنطقة العربية.
كلامٌ كثيرٌ قيل منذ 17 سنة، وإلى اليوم، عن المستفيد من الجريمة الكبرى، ومن ابتعد عن المؤشّر المحلّي المحض للاغتيال لم يتخطّ باتّهاماته النظام السوري، الذي كانت له “وصاية” على لبنان مؤيّدة عربياً ودولياً، في جامعة الدول العربية، والأمم المتحدة، بجمعيّتها العامة ومجلس الأمن. وبهذه الصفة، وهذا الغطاء المزدوج، فإنّ “الوصي” مسؤول، في القانون الدولي، عن حال البلد الخاضع لوصايته، وعن “الأحداث” المفصلية الكبرى التي قد يشهدها، فكيف وقد كان عسسه ومخبروه يعرفون بولادة نملة على أرضه، ثم يدّعون الجهل بتفاصيل مؤامرة لا تناقض نهجهم الدموي في تصفية الخصوم.
اللافت أن ندرة تنبهت إلى المصلحة الإيرانية في “إزالة” رفيق الحريري. صحيح أن النظام الأسدي عقدة مركزية في تحالف الأقليات الإقليمي، لكنه ليس قائده، بل هو أبرز أطرافه، ليس منذ شباط 2005، بل قبل ذلك بكثير، تحديدًا منذ سبعينات القرن الفائت، حين عمد النظام إلى فرض تغييرٍ ديموغرافي حول العاصمة دمشق، بحجة التطوير المكاني.
لم تخفِ طهران أحلامها بالتوسع والهيمنة، منذ زمن الشاه، وما أحاديث قادتها، ومسؤوليها، مدنيين وعسكريين، في السيطرة على عواصم عربية إلا تحدّيًا للعرب الذين لم يهزّ لهم جفنٌ، لانشغالهم بمناكفات بينية ومكائد متبادلة، وأغلبهم غفل، تاريخيًّا، عن إسرائيل، وقبلها عن إيران، التي سبق غزوها للأرض العربية اليوم احتلال الأحواز(وليس الأهواز بالنطق الفارسي) المعروفة بعربستان، وهي، تاريخياً، إمارة عربية تمتعت بالحكم الذاتي في عهد الانتداب البريطاني ثم ضمّها الشاه لإيران عام 1925 وأعدم حاكمها خزعل الكعبي وقضى على الإمارة العربية فيها، وكان ذلك بعد اكتشاف النفط بالمنطقة.
اتّبعت السلطة الإيرانية، وحتى اليوم، سياسات تمييزية ضد عرب الأحواز، في التوظيف وفي الثقافة، فمنعتهم من تعلم اللغة العربية ومن استعمالها في المناسبات ومن تسمية أطفالهم بأسماء عربية. علاوة على ذلك، اتبعت السلطات سياسة تفريس الإقليم لتغيير طابعه السكاني، فجلبت آلاف العائلات من المزارعين الفرس منذ عام 1928. وكان اكتشاف النفط في الإقليم عام 1908 أدى إلى توطين مئات الآلاف من الفرس في خوزستان مما غير التركيبة السكانية. ولم تكن حال الإقليم أفضل تحت حكم الملالي، ومن يراجع تاريخ الصراع بعد الثورة الخمينية يقف على وقائع المجازر التي تعرض لها أبناء الأحواز على أيدي النظام الديني.
وجدت إيران في الفسيفساء اللبنانية مرتعًا لمشاريعها التوسعية، ولم تقصر في البحث عن انشقاقات في المشهد اللبناني، ووجدت في بعض المسلمين الشيعة ضالتها، وحاولت تأطير الطائفة ثقافياً ودينياً واقتصادياً واجتماعياً، وسهّلت لها ضاحية بيروت الجنوبية الوعاء الجغرافي المطلوب، وفطنت إلى أن سعي الشهيد رفيق الحريري إلى رفع شأن لبنان بالتنمية العامة، وتعزيز الاستقرار، وتحصينه ببنية اقتصادية استراتيجية، ستفضي جميعًا إلى رفع مستوى المعيشة والابتعاد عن العنف وتحقيق الدمج الاجتماعي، إن لم يكن عن اقتناع، فعن مصلحة شخصية، ما يلجم النزوع إلى الفوضى التي لا تفيد سوى أعداء لبنان، والذين يبحثون عن إضعافه لاستخدامه مطية وحقل تجارب في السعي إلى أن يكونوا قوة إقليمية. وهل ينسى اللبنانيون اعتراض الحزب إياه على شق طريق المطار، ودفن مشروع “أليسار” الذي لم يتحقق منذ تسعينات القرن الماضي، بينما موظفوه ومجلس إدارته لا يزالون يتقاضون رواتبهم وهي بعشرات آلاف الدولارات، ولا يسمح بإقالتهم لأسباب التوازن الطائفي.
المفارقة المبكية، أن حزب إيران في لبنان لم يوارِ استراتيجيته الهادفة إلى إعطاء لبنان هوية ليست له، لكنّ مناوئيه لم يقتنعوا بأنه على طرف نقيض مما هو عليه، فكان أن عرضوا عليه الحلف الرباعي في انتخابات 2005، ثم قبلوا بتعهداته اللفظية في اتفاق الدوحة يوم نالوا “الثلث المعطل” ثم كانت الفضيحة الكبرى بقانون انتخابٍ فصّل على مقاسهم ومقاس حليفهم التيار العوني، وأنعش سم الطائفية الذي لا مناص لهم منه إن أخلصوا للمشروع الأقلوي، وهم مخلصون.
أوصل كل ذلك إلى أن ينجح حزب طهران في تطويع الشرعية الدستورية وارتداء قناعها ليمكّن لا شرعيته من إدارة البلاد ووضع هيمنته على الشاردة والواردة فيها، حتى بات تصنيع الصواريخ الدقيقة والطائرات المسيّرة أمرًا عاديًّا، لا يستدعي إنتاجها سؤالًا من أجهزة المخابرات والأمن والقضاء عنها وعن مواقع تصنيعها، كأن لا شيء في أمرها يدعو إلى التساؤلات، إلى حدّ أنّ “المشرف” على التصنيع دعا من يريد أن يمتلك من نوعها إلى تسجيل اسمه لدى “دائرة الإنتاج” ليحددوا له موعد التسليم!
ذلك طبيعي في عهد اللاشرعية المتمادية، وهو طبيعي بالتأكيد في بلد يتحدث رئيسه عن الديموقراطية اللبنانية في حضور السلك الديبلوماسي بينما هو من عطّل انتخاب رئيس الجمهورية عامين ونصفًا حتى أتى به الحزب إلى قصر بعبدا على متن سلاح “حزب الله ” الديموقراطي، وهو نفسه، بهذه “السمات” يكمل إسباغه الشرعية على اللاشرعية بتحويل القضاء إلى مطية لأطماعه السياسية، بالتواطؤ مع الحزب الحليف ولخدمته.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us

Skip to toolbar