أين القضاة الأحرار؟


كتب رامي الريّس لـ “هنا لبنان”:

بقدر ما هو مطلوب من السلطة التنفيذيّة ألا تتدّخل في أعمال السلطة القضائيّة، بقدر ما هو مطلوب من السلطة القضائيّة ألا تنحرف نحو الكيديّة والاستنسابيّة في القيام بدورها إرضاءً للأطراف السياسيّة ومحاباةً لها وتطبيقاً لأجنداتها. وإذا كان هناك من “مونة” زائدة من قوى سياسيّة معينّة على القضاء، فمسؤوليّة القضاء كبح ذلك الجموح والعودة إلى الأصول في الممارسات القضائيّة والقانونيّة.
لقد تبيّن بعد مرور خمس سنوات ونيّفٍ من العهد القوي في تدمير المؤسسات واستباحتها أنّ دكّ أسس استقلاليّة القضاء كان بمثابة عمليّة منهجيّة ومبرمجة، ليس الامتناع عن توقيع التشكيلات القضائيّة منذ سنوات سوى أحد إرهاصاتها المتواضعة قياساً لما شهدته الساحة الداخليّة من مبارزاتٍ وسلوكيّاتٍ لا تمتُّ إلى العمل القضائي بصلة ولا تعدو كونها ذات نزعة انتقاميّة تُدمّر ما تبقى من مؤسساتٍ للدولة المتعادية وتعرّض هيبتها لمزيد من الاهتزاز.
ليس هذا الكلام في معرض الدفاع عن أحد، أو توفير الغطاء لأحد، ذلك أن الانهيار الكبير الذي شهده لبنان ليس وليد لحظة معيّنة بقدر ما هو نتيجة حتميّة للسياسات الاقتصاديّة والماليّة الملتوية التي مورست طوال عقود وأدّت إلى غياب تام للعدالة الاجتماعيّة، وإنماء الأرياف، وتوسيع المجال الاقتصادي المحلي بدل اقتصاره على الخدمات والسياحة التي تتعثر عند كل منعطف تأزم سياسي أو اقتصادي.
إنما أيضاً ثمّة خطورة بالغة في تسخير القضاء لخدمة أغراض سياسيّة بشكل فاضح، ولتمرير ممارسات انتقائيّة من شأنها أن تقضي على ما تبقى مؤسسّات متهالكة واقتصاد متناثر ومجتمع منهار.
إذا كانت بعض مكونات السلطة التنفيذيّة تحجب إقرار الخطط الإصلاحيّة المطلوبة محليّاً ودوليّاً تحقيقاً لمشاريعها الفئويّة والشعبويّة؛ فإن السلطة القضائيّة تملك القدرة على أن تخط المسار الإصلاحي المطلوب شرط أن تحافظ على استقلاليتها بالدرجة الأولى ودون أن تنغمس في تنفيذ الأهداف التي ترسمها لها قوى سياسيّة معيّنة. حصانة القضاء لا تُستجدى من السياسيين، بل تُمارس من قبل القضاة الأحرار الذين هم من ذوي الضمائر الحيّة التي لا ترتضي على نفسها أن تكون مجرّد منفّذ رخيص لطلبات هذا الطرف السياسي أو ذاك.
قد تفضي الإنتخابات المقبلة (إذا لم يتم “تطييرها” من قبل القوى ذاتها التي تمد يدها إلى القضاء) إلى تغييرات كبيرة في المشهد السياسي وقد لا تُفضي إلى ذلك. القرار الفصل هو في صندوق الاقتراع. ولكن، بوسع القضاء أن يغيّر مشهده الداخلي بذاته وأن يبيّض ساحته بنفسه. ليس القضاء بحاجة إلى شهادة حسن سلوك من السياسيين ليمارس عمله، وبطبيعة الحال ليس بحاجة لتلقي الأوامر والتعليمات من السياسيين كذلك الأمر.
أما آن أوان الثورة القضائيّة؟ أين القضاة الأحرار الذين يملكون حريّة الضمير والكلمة ليعبروا في الوقت ذاته عن رفضهم لتدخل السلطة السياسيّة في عملهم، ولرفض جر القضاء إلى ساحة الاسترضاء السياسي؟ بين هذين الحدين، ثمّة مساحة واسعة للحرية ولوقفة الحق وللحكم بالعدل، وكل ما هو عدا ذلك هو تقاعس وإهمال إن لم يكن بمثابة التواطؤ والخيانة.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us