اطلبوا السلم ولو من التنّين!


أخبار بارزة, خاص 24 آذار, 2023

من مصلحة الدول العربية أن تنخرط إيران في المجتمع الدولي، وتبدي التزامها بقواعد العلاقات الدولية، وتستفيد من التعاون الإقتصادي الإقليمي، وتكف عن الأحلام الإمبراطورية التوسعية التي لم يخفها قياديوها في مناسبات عدة، فإن الوضع المتأجج في العالم الإسلامي يحتاج إلى مساهمة براغماتية من الطرفين.

كتب راشد فايد لـ “هنا لبنان”:

لو كان للعلاقات السعودية – الإيرانية أن تتمثل في رسم بياني، لكان المتابع وقف على خطوط متسلقة أحياناً، ومنحدرة أكثر الأحيان، لكنها متواصلة بإستمرار، يلحم بين مقاطعها التنافس والود، والعداء والتحالف، ويختلط فيها الديني بالإقتصادي بالسياسي. وما يلفت في تقلبات هذه العلاقة هو سرعة تحولها من واقع إلى نقيضه.

جعل التاريخ من السعودية وإيران وريثتين شرعيتين للخلاف بين السلطنة السنية العثمانية والدولة الصفوية الشيعية. كذلك، حاكى التاريخ بينهما في لحظة نشوء الدولتين: فقد اعتلى رضا بهلوي العرش عام 1926، بعدما طرد العائلة القاجارية الحاكمة في إيران، وهو العام نفسه الذي وحد فيه الملك عبد العزيز آل سعود شبه الجزيرة العربية وأعلن مملكة الحجاز ونجد.

بدأ الصراع قبل ذلك بسنة، حين احتلت القوات الإيرانية إقليم الأحواز، (وليس الأهواز) العربي، وأسرت حاكمه الشيخ خزعل الكعبي. لم يتحرك الملك عبد العزيز المنشغل بتوحيد الحجاز ونجد، لكن السنة التالية لولادة المملكة شهدت اتفاقاً اعترفت بريطانيا بموجبه بحكومة البحرين ما اعتبره الشاه تحدياً وقدم شكوى إلى الأمم المتحدة.

في العام 1929، وقع الطرفان معاهدة صداقة استمرت حتى العام 1941، مرت العلاقات في ظلها بأزمات، بينها إعدام حاج إيراني عام 1934، بتهمة إلقاء قاذورات على الكعبة. إكتفت طهران بالإحتجاج.

قطعت العلاقات بين البلدين عام 1944، ثم تقاربا عام 1946 بمبادرة ودّ من الملك عبد العزيز، واستؤنفت عام 1947، وكرس التقارب اصطفاف البلدين إلى جانب المعسكر الغربي حينها. وفي العام 1950، أدى اعتراف إيران بإسرائيل إلى أزمة بين البلدين.

وفي العام 1958 سقط النظام الملكي في العراق، وظهر نزاع عراقي – إيراني، فظاهرت السعودية إيران، بعدما دعمت مصر الناصرية بغداد.

بين هذا العام والعام 1968، تضامنت الدولتان في أغلب المفاصل السياسية الإقليمية، كما عند أحداث اليمن (1962) وفي وجه الناصرية عام 1965، وعند الخلاف الإيراني – العراقي عام 1966، إلى أن انفجرت مشكلة البحرين بينهما، في ظل الانسحاب البريطاني منها، عام 1968 وزيارة أمير البحرين للمملكة، وتلا ذلك تنافس الدولتين على زعامة الخليج بعد إعلان الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون تقليص عديد قواته في المنطقة.

ثم احتدم الخلاف باحتلال إيران الجزر الإماراتية الثلاث، ثم رفضها خفض أسعار النفط عام 1974 كما اقترحت السعودية عقب حرب أكتوبر 1973. لكن الملك خالد بن عبد العزيز أعاد الحرارة إلى العلاقات بزيارة طهران عام 1976، وردت الأخيرة في العام التالي بالموافقة على خفض سعر النفط.

مع الثورة الخمينية عام 1979، فتحت صفحة جديدة في العلاقة بين البلدين، وإذا كانت الأولى اتسمت باستقرار نسبي، وغلبت عليها المصالح النفطية والسياسية، لا سيما المواجهة بين معسكري الحرب الباردة، فإن هذه الصفحة تعج بالمعالم الإيديولوجية الدينية وبتناقض بين أسلوبي دبلوماسية كل منهما: النهج السعودي الهادئ والوئيد، والمنطق الإيراني الهجومي إلى حدود العدوانية.

فرض قيام الثورة في إيران عام 1979، واقعاً جديداً على منطقة الشرق الأوسط، لا سيما الخليج العربي وترك ظلاله على علاقات إيران بجوارها العربي، في ظل قوتين سياسيتين إيرانيتين هما المؤسسة الدينية المتأثرة بالخلاف مع الحركة الوهابية، والقوة الثورية، التي تتأثر بالتحالفات الأميركية في المنطقة، سلباً إيجاباً.

من دون سرد المفاصل في العلاقة بين الطرفين بعد الثورة، يمكن القول أن أربعة ملفات تحكمت بها هي:

أولاً: الملف الديني المذهبي، الذي غلف الحرب العراقية – الإيرانية وتجلى في لبنان وموقف طهران في البحرين وسوريا، حيث ترى إيران في الأولى ما لا تراه في الثانية، والعكس صحيح.

ثانياً: التنافس على صدارة العالم الإسلامي، وتدخل فيه القضية الفلسطينية، التي ترى الرياض ضرورة السعي إلى حلها بمبادرة قمة بيروت العربية، وترى طهران، على الأقل، حتى إنجاز الاتفاق النووي، ضرورة استمرار القتال لحلها.

ثالثاً: العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية، التي تمر اليوم بالمرحلة النووية ولم يكتمل وضوحها بعدما كانت أحد مكامن الصدام السعودي – الإيراني.

رابعاً: ملف النفط والسياسات النفطية، وهو موضع تجاذب منذ زمن الشاه.

في ظلال هذه الملفات مفاصل رئيسية في العلاقات السعودية – الإيرانية كالحرب العراقية – الإيرانية وتردداتها على العالمين العربي والإسلامي، وما سبقها من أحداث في المنطقة الشرقية من السعودية، ولحقها إتهام لإيران بمحاولة تفجير الكعبة، وموسم الحج عام 1987 وشعار البراءة من المشركين. وقد شكلت مواسم الحج، ولفترة، قنابل موقوتة في مجرى العلاقات الثنائية.

ظل العداء والتوتر مسيطراً منذ قيام الثورة وحتى وفاة الإمام الخميني، خصوصاً بعد إنتهاء حرب الخليج الثانية (1990- 1991) وبعدما هدأ، إلى حد كبير، الاتهام الموجه إلى إيران بتصدير الثورة. في العام 1990 وقفت إيران إلى جانب الكويت ودول الخليج في محنة الغزو الصدامي لها، ما شكل منعطفاً مهماً في مسيرة العلاقات بين البلدين. في تلك المرحلة برز نجم الرئيس الإيراني هاشمي رفسنجاني ومن بعده الرئيس محمد خاتمي اللذين كرسا نهجيهما في تأسيس علاقات حسن جوار وبالذات في عهد خاتمي الذي طرح فكرة حوار الحضارات والانفتاح على العالم والتطبيع مع الدول العربية.

نتيجة ذلك، شهدت العلاقات السعودية – الإيرانية درجة عالية من التطور والتنسيق والتعاون ترجم في تعدد وتبادل زيارات المسؤولين من البلدين وعلى مستوى عالٍ.

في العام 2003 سقط النظام العراقي على يد القوات الأميركية وبمساعدة خليجية، ووصل الشيعة إلى الحكم في العراق، واحتفظوا بعلاقة جيدة مع إيران، فيما لم تعترف السعودية بالحكومة العراقية بحجة أنها حكومة واقعة تحت الاحتلال. هذه الخطوة جعلت إيران تحتل موقعاً متقدماً في المعادلة العراقية.

في العام 2006 تبدلت مسيرة العلاقة بين البلدين، بمجيء محمود أحمدي نجاد رئيساً لإيران فعادت موجة تصدير الثورة وبدأت مرحلة عداء وتنافر بين البلدين، حتى رأى البعض فترة رفسنجاني وخاتمي استثناء.

عادت الملفات الساخنة التقليدية بين البلدين، مضافاً إليها البرنامج النووي الإيراني، ودور طهران الإقليمي الهجومي في لبنان وسوريا والعراق وفلسطين واليمن. وهو دور ازداد هجومية في ظل مفاوضات النووي الإيراني مع الدول الـ5+1، حتى بدا جزءاً من العملية التفاوضية، وذلك تجلى تحديداً في الأزمة اللبنانية حيث اهتز الاستقرار الهش مراراً تلازماً مع ارتفاع الخلاف في فيينا أو خفضه.

تزايد الدعم الإيراني الواضح في اليمن، دفع بالسعودية إلى التخلي عن نهج الديبلوماسية الهادئة للعب دور مهم في إعادة تشكيل مشهد المنطقة، بتكوين التحالف العربي لدعم الشرعية في وجه الحوثيين وعلي عبدالله صالح المدعومين من طهران.

مرت العلاقات بين المملكة السعودية وإيران الثورة بتقلبات عدة، بدا الإتفاق النووي، باستمرار، مفترقاً جديداً في سياقها. فلقد أدى إلى ظهور حملة تودد إيرانية في اتجاه الدول العربية، لكن، وباستثناء زيارة وزير الخارجية محمد جواد ظريف السعودية للتعزية بوفاة الملك عبدالله بن عبد العزيز، فإن جولته على دول الخليج، حينها، لم تشمل الرياض، لكأن الهدف استبعادها من الود الإيراني القديم والمستجد، أو عزلها. فلطهران علاقة أكثر من ممتازة مع سلطنة عُمان، منذ ما قبل قيام الجمهورية الإسلامية، كما لها علاقات إقتصادية مالية مع دبي، فيما تتقاسم مع الدوحة أكبر حقل غاز في العالم. أما دولة الكويت فلها وضع مختلف خصوصاً بعد كشف شبكة لحزب الله اللبناني فيها، ومخطط تفجيرات ينسب إليه. أما البحرين فهي موضع صدام ديبلوماسي- سياسي- مذهبي منذ منتصف عشرينات القرن الماضي.

والآن إلى أين تتجه العلاقات بين البلدين؟

في ظل “اتفاق بكين، يجب ملاحظة أن إيران اليوم لم تعد محررة من القيود الدولية، تحديداً مع إنجاز الاتفاق المذكور، لكن معرفة مدى ارتداداته ليست متاحة قبل مرور شهرين لترتيب إعادة المسالك الديبلوماسية بين البلدين، وعبور امتحان المصالحة اليمنية، وتأمين الحدود السعودية- اليمنية، وخضوع الجميع للشرعية، بما يتيح جدية في عملية إعادة بناء الثقة بين البلدين، وعدم انقلاب طهران على تعهداتها باحترام سيادات الدول.

لا يمكن أخذ الانفراج بين الطرفين بالتفاؤل أو التشاؤم، بل بالوقائع تحديداً إذا وجدت مساحات للتفاهم، واعتمدت ثقافة السلام، واحترام حدود الدول وسياداتها، والتسليم بحق الفرد في اختيار دينه ومذهبه من دون عداء للآخر، أو تكفيره، والتسليم بأن لا إكراه في الدين، وتشجيع تبني المواطنة كهوية لشعوب المنطقة، وليس المذهبية.

إنّ أحد وجوه الأزمات في لبنان وسوريا والعراق واليمن يتجلى في التضادّ السعودي الإيراني، لكن ذلك لا يستعصي على الحل، لأن لدى البلدين إمكانات تجاوز الإشكالات بالواقعية السياسية، وتجنب استخدام القوة، أو تحريك التناقضات مذهبية أو عشائرية في هذا البلد أو ذاك.

فمن مصلحة الدول العربية أن تنخرط إيران في المجتمع الدولي، وتبدي التزامها بقواعد العلاقات الدولية، وتستفيد من التعاون الإقتصادي الإقليمي، وتكف عن الأحلام الإمبراطورية التوسعية التي لم يخفها قياديوها في مناسبات عدة، وتجلت في دعم الحوثيين، في اليمن، والميليشيات المذهبية في العراق، وتسليح “حزب الله” في لبنان، كذلك، فإن الوضع المتأجج في العالم الإسلامي يحتاج إلى مساهمة براغماتية من الطرفين. فالوقائع الإقليمية والإسلامية تفيد بأن تحسن العلاقات رهن برغبة طهران في إعادة النظر في سياستها الخارجية، والتخلي عن عدوانيتها، وهو ما يوصل إليه اتفاق بكين.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us

Skip to toolbar