فراغ راغ راغ

سيكون انتخاب رئيس، إن حصل، أقرب إلى استراحة المحاربين، أو مجرد محطة انتظار لقطار التسوية الكبرى، بعنوان السلام الإبراهيمي. هي وحدها ما سيعود على يديها لبنان دولة، بشروط المنطقة. لكن أي دولة؟

كتب راشد فايد لـ “هنا لبنان”:

إذا صدق منام اليقظة، وتحلحلت عقدة الرئاسة، وجاء ساكن إلى قصر بعبدا، فلا تتفاءلوا بأنّ الأمور ستسلك إلى إعادة ولادة الدولة بصحة موعودة، تنقل اللبنانيين إلى زمن جديد. فالوطن لن يحلّق تحت سماء جديدة، والدولة ستبقى بلا عصا غليظة اسمها القانون، وجراح المجتمع لن تلتئم على زغل، وستظل الأبواب مفتوحة قدّام رحلة الآلام الوطنية، فما استُهلّ باعتماد “ليوجيرغا” رئاسية، تحت الطاولة وفوقها، وطبطبات هنا، واسترضاءات هناك، سيظلّ يحكم البلاد، وشعبها الذي يتناسى إساءات الطبقة السياسية، بحجة استحالة الشفاء لأن الفساد يتغلغل في دم الجميع، من أصحاب الأورام المالية المفتعلة، إلى مدمني الجوع الأكيد في أحياء المدن كما الضواحي، على مدى الجغرافية اللبنانية. فلكل فساده على مقاسه.

لم تستمر أزمة الرئاسة الضائعة منذ 6 اشهر، فهي بدأت قبل ذلك، مع بدء ولاية الرئيس الأخير العماد ميشال عون، فيومها بدا الكلام عمن سيخلفه، تحديداً من بيت أهله، صهره جبران، وغير صهره ممن هم في كنفه. أليس كل ماروني “مؤهّلا” ليكون قاطن بعبدا، فكيف إذا توهم أنّ كرسيها يمكن أن يؤول إليه بالإرث المزعوم؟

يوم انتخاب الرئيس الجديد سيفتح صفحة جديدة لصراع جديد، وإلّا سيثبُت أن الصفقة الدولية – الإقليمية – المحلية تشمل حلولاً لكل الإختلافات الراهنة والمناحرات المستقبلية، وإلا يكون انتخاب الرئيس، بمنطق الخطوة خطوة لصاحبه هنري كيسنجر الذي طبقه لمصالحة واشنطن وبكين، في سبعينات القرن المنصرم، فنكون أمام تسويات موضعية، حسب الأحوال السياسية.

في قول آخر، سيكون انتخاب رئيس، إن حصل، أقرب إلى استراحة المحاربين، أو مجرد محطة انتظار لقطار التسوية الكبرى، بعنوان السلام الإبراهيمي. هي وحدها ما سيعود على يديها لبنان دولة، بشروط المنطقة. لكن أي دولة؟ فالمشهد السياسي اليوم لا يشي باقتراب الحل، أي حل، ولا يُستبعد أن يستمر الحال على ما هو عليه: فلا الثنائي الشيعي قادر على فرض مرشحه، غير المرشح بعد، وإن تظلّل بالقوة المسلحة ولا الخماسي المقابل متمكن من إيصال مرشحه، ولا يتورع الأول عن التلويح باستعراض عضلاته، وتحميل خصمه تهمة التحدي له، أيّما كان مرشحه، على طريقة غوبلز النازي الذي من “نصائحه” أن إكذب.. إكذب حتى يصدقك الآخرون، لكن الآخرين، اليوم، لن يصدقوه، خصوصاً أن خصومه يمارسون حقهم الدستوري في اختيار مرشحهم للرئاسة، فمن أي زاوية يرون التحدي، وهل ما هو “حلال” لهم، كأن يسموا مرشحهم، ولو بالتسريب، بينما الأمر نفسه حرام على غيرهم.

حوار الطرشان هذا يكلله رئيس مجلس النواب بإمساكه بالخيوط الدستورية لتعطيل الإنتخاب، بحجة تلافي المواجهة في الشارع، التي يعرف أنها ما كانت لتلوح في الأفق لولا عنجهية السلاح وأصحابه. فالدستور اللبناني لو طبق في بلد طبيعي، أي غير لبنان بما هو اليوم، لانتخب الرئيس قبل تشرين الأول الماضي، بشهرين، لكن “مرض” التوافق، والتسويات، ومعناهما المضمر هو التواطؤ، هو ما يجعل انتخاب الرئيس مرشحاً للإطالة، و”علك” السياسين، فلا يرتجى حلّ في المدى القريب.

السبب مثلث الأضلاع: الأول أنّ الحزب أمام خيارين أحلاهما مر، وهو الخضوع لمنطق الديموقراطية، والذهاب إلى مجلس النواب مسلّماً سلفاً بنتيجة الإقتراع الحر للنواب، وهذا سيعني انكفاءه عن الخروج من كنف الدولة، وخضوعه لمنطق الديموقراطية، أي أن يغير سلوكه الاستراتيجي، وذلك ليس من “تراثه”، ولا من تعهداته الإقليمية. والضلع الثاني، تهديداته للبنانيين بالسلاح، ورأينا الأسبوع الفائت أن “موضة” الاستعراضات والمناورات العسكرية أصابت حلفاءه، في الجنوب وفي بيروت، والثالث أن اتفاق بكين، إن لم ينص على حل للبنان، فإنه نهى عن الصدام بالواسطة وتمسك بحرمة سيادة الدول. بمعنى آخر، المشهد جامد إلى ما شاء الله: لا توافق، ولا تنافس ديموقراطي، ولا سيطرة لطرف على حساب آخر. وفي العمق ، نعيش حرباً باردة إقليمياً، والطرفان المحليان غير مستعدين للإنكسار، أحدهما مقابل الآخر، فالمواجهة المحلية لا تنتهي إلّا بانكسار أحد الطرفين، وسيكون انكساراً للمشروع الإقليمي الذي يمثله، أو بضغوط خارجية لا تزال مؤجلة بحجة العفّة أمام سيادة الدولة اللبنانية.

الأمران غير متوافرين اليوم. وللتذكير، لم تتوقف الحروب في لبنان في سبعينات القرن الماضي شفقة على اللبنانيين، بل لأن مؤتمر مدريد للسلام كان سينعقد وكانت آمال إقليمية ودولية معلقة عليه، فأُخرج لبنان العليل من العناية الفائقة، وأُنعش كي يوقع اتفاقية لم تولد، لكنه كسب استقراراً كان غير مأمول.

مواضيع مماثلة للكاتب:

عودة الكونفيديرالية

الهزل في باب الجد

إكرام العروبة دفنها