ملف النازحين: الأسد ينتظر “على الكوع”


خاص 9 أيار, 2024

عبثاً يتخبط الجميع في لبنان وسائر الدول المضيفة وأوروبا، ويتقاذفون كرة النار، فيما هناك في دمشق من ينتظر أن يعود الجميع إليه ويطلبوا منه المساعدة، وعندئذٍ هو سيستفيد من هذه الورقة إلى الحد الأقصى ويطلب الثمن مقابل تسهيل الحل، وهذا الثمن هو التطبيع مع النظام


كتب طوني عيسى لـ”هنا لبنان”:
على مدى 13 عاماً، تحوّل النازحون السوريون في لبنان ورقة جاهزة للاستثمار، أمنياً واجتماعياً واقتصادياً. ومن المفارقات أن يكون النظام في دمشق هو الأقدر على الاستثمار. وفي الأسابيع الأخيرة، بدا واضحاً أنّ هناك من يدفع بقوة إلى إنضاج هذه الورقة، في لحظة الضعف والإرباك التي يتخبط فيها لبنان وحكومته وقوى السلطة.
هذه القوى التي تهاونت كثيراً في التعاطي مع ملف النازحين، على مدى سنوات، عندما كانوا يتدفقون يومياً بالآلاف أو عشرات الآلاف، من خلال معابر شرعية وغير شرعية، تتنصل اليوم من المسؤولية عن الكارثة، بل تعمل للاستثمار فيها سياسياً ومادياً.
وليس واضحاً على أيّ أساس وافق الرئيس نجيب ميقاتي على صفقة المليار يورو من المفوضية الأوروبية، مقسمة على 4 سنوات، تغطية لكلفة النزوح، ولم يُكشف عن تفاصيل الاتفاق الذي حصل. لكنه على الأقل يؤشر إلى أنّ قوى السلطة تبارك استمرار إقامة النازحين في لبنان 4 سنوات أخرى، مدفوعة الثمن مسبقاً، ولا يمكن الاعتراض عليها حتى العام 2027.
والمنطق الاستسلامي الذي تعتمده الحكومة في هذا الملف هو الآتي: النازحون مفروضون علينا. ومن أصل أكثر من مليوني نازح، لم يعد سوى بضع مئات أو آلاف إلى بلدهم، ولم يهاجر إلى أوروبا سوى بضع مئات أو آلاف أخرى. وهذه الأعداد تعوضها الولادات الكثيفة في بيئة النازحين خلال أسابيع قليلة.
العارفون يقولون: المشكلة في مكان آخر. فالجميع يتلهى بالأرقام، أرقام النازحين والمساعدات المالية، فيما مشكلة النازحين محض سياسية. ولذلك، عبثاً يتخبط الجميع في لبنان وسائر الدول المضيفة وأوروبا، ويتقاذفون كرة النار، فيما هناك في دمشق من ينتظر أن يعود الجميع إليه ويطلبوا منه المساعدة. وعندئذٍ، هو سيستفيد من هذه الورقة إلى الحد الأقصى، ويطلب الثمن مقابل تسهيل الحل. وهذا الثمن هو التطبيع مع النظام.
الجديد في هذا الشأن، ووفق المعلومات المتوافرة، أن الأوروبيين بدأوا أخيراً يسلّمون بخيار الانفتاح على الأسد، من أجل المساعدة على إنتاج تسوية سياسية للملف السوري الداخلي، تشكل ممراً إجبارياً للتخلص من كابوس التدفق غير الشرعي للمهاجرين إلى الشواطئ الأوروبية. وفي تقدير بعض المعنيين أنّ الأسد استطاع تثبيت موقعه الأقوى في سوريا، على رغم سنوات من الحرب القاسية، والواقعية تقتضي أن تتمّ مفاوضته لإنتاج التسوية. وفي المعلومات أنّ الأوروبيين سيترجمون هذا التوجه المستجد في مؤتمر بروكسل للنازحين، المقرر في 27 من الجاري، علماً أنّ العديد من الحكومات الأوروبية بقيت تحافظ، خلال سنوات الحرب، على أقنية اتصال وتنسيق مع الأسد حول ملفات الأمن وشؤون الإرهاب.
ومن المتوقع أن يستثمر الأسد هذا الاتجاه الأوروبي لتكريس الاعتراف به دولياً، في موازاة رهانه على استكمال مسار الانفتاح الذي بدأه العرب للتطبيع مع نظامه، والذي تتعاقب خطواته منذ سنوات، ولو بخطى بطيئة. وثمة من يعتقد أنّ الأسد سيستفيد من التطورات الجارية اليوم في غزة، فهو يتقاطع مصلحياً مع غالبية القوى العربية الأساسية في تراجع هالة “حماس”، التي هي العنوان الفلسطيني لتنظيم “الإخوان المسلمين”.
إذاً، في هذا المناخ، وجدت حكومة ميقاتي مبررات لكي تستسلم للأمر الواقع في ملف النازحين، وتتذرع بأنها تتعرض للضغوط الأوروبية والعربية. وهذه المبررات ستستخدمها لفتح أقنية الاتصال والتطبيع مع دمشق، تحت عنوان النازحين. والتوجه الرسمي اللبناني نحو التطبيع، وإن بدأ خجولاً، فإنه سيترسخ إذا وصل حليف لدمشق لرئاسة الجمهورية، وفق ما يُطرح اليوم.
والأرجح أنّ اللبنانيين سيُدفعون اضطرارياً إلى مساومة دمشق في ملف النازحين، بهدف معالجة تطورات أمنية قد تطرأ ويكون بعضها مفتعلاً، فإنّ هناك حوارات موازية ستُفتح تلقائياً مع دمشق حول مسائل أخرى لا تقل إلحاحاً:
1- في ملف الجنوب، اصطدم الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين في جولاته الأخيرة بمأزق ترسيم الحدود في مزارع شبعا. وهذا الملف الداهم لا يمكن إنجازه إلا بإشراك سوريا في المفاوضات. وبالتأكيد، سيعتمد السوريون فيه أسلوب المناورة والمساومة والمقايضة.
2- استطراداً، هناك حاجة إلى ترسيم الحدود مع سوريا في مناطق البقاع والشمال، حيث تضيع الخطوط والمسؤوليات ويُفتح المجال واسعاً لعمليات النزوح المتفلت وتسلل المطلوبين وتهريب الممنوعات. وليس مؤكداً أنّ دمشق ستجد مصلحة في إزالة الالتباسات على الحدود.
3- في الفترة الأخيرة، برزت الحاجة في لبنان إلى حلحلة العديد من المسائل الأمنية والقضائية الساخنة، خصوصاً بعد جريمة اغتيال باسكال سليمان. وهذا الأمر يستدعي فتح ملف التعاون الأمني والقضائي بين البلدين. لكن التجارب السابقة في مجال التعاون لم تكن مشجعة في الجانب السوري.
4- هناك حاجة، عاجلاً أو آجلاً، إلى التفاوض على ترسيم الحدود البحرية مع سوريا، قبل تلزيم البلوكات الشمالية، على غرار المفاوضات التي جرت مع إسرائيل في الجنوب. لكن دمشق لم تبدِ حتى اليوم أي استعداد للدخول في هذه المفاوضات.
فوق ذلك، هناك الدور “التقليدي” الذي تطمح دمشق دائماً إلى الاضطلاع به في الحياة السياسية اللبنانية، منذ الاستقلال- وما قبله بكثير- نتيجة عوامل كثيرة. وهذا الدور الذي تحوّل وصاية على لبنان لفترات طويلة، يتراجع حيناً ويتصاعد أحياناً، تبعاً للظروف، لكنه لم ينقطع في أي يوم، حتى بعد انسحاب سوريا من لبنان في العام 2005.
إذاً، كل طرق الأزمات في لبنان تقود إلى دمشق، والأسد ينتظر “على الكوع”. وعندما سيحاوره اللبنانيون في ملف النازحين، سيردّ بفتح ملفات كثيرة دفعة واحدة، ويضعهم أمام خيار صعب: ماذا تدفعون إذا كنتم تطلبون مساعدتنا للحل في هذا الملف؟
رهان الأسد أن يكون ملف النازحين ورقة ضغط على اللبنانيين لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ولو بمقادير وأشكال مختلفة، تحت عنوان العلاقة “المميزة”.
فهل في مقدور لبنان العاجز والمربك، في ظل تركيبة سياسية فاشلة، أن يرسخ علاقة متكافئة مع دمشق؟ أم إنّ ملف النازحين سيكون باباً للانزلاق مجدداً إلى تجارب أخرى مريرة مع سوريا؟ وما دور طهران في كل ذلك؟

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us