نصر الله.. و”درب الشهادة”!
بالطبع لم تقتل إيران السيد نصر الله، ولكن إسرائيل استغنمت فرصة فرط الشهية الإيرانية على المال والاقتصاد وتظهير صورة جديدة عن الدولة أمام الغرب والعالم، واطمأنت مسبقاً إلى أنّ إيران لن تنتقم لأي انتهاك أو اغتيال، لتنقضّ على “الحزب” وقياداته في لبنان، ولتغتال أمينه العام بعد صوم قسري امتدّ في أقل تقدير لأكثر من 18 سنة، أي منذ حرب تموز 2006
كتب جوزف طوق لـ”هنا لبنان”:
لماذا اغتالت إسرائيل السيد حسن نصر الله؟ ولماذا نفّذت العملية في هذا التوقيت؟ وهل الهدف من العملية القضاء على حزب الله أم فتح معركة إقليمية كبيرة؟
كلها أسئلة لا يمكننا التقاط أجوبتها لا من موقع الغارة ولا من ساحة المعركة المفتوحة بجنون على لبنان، ولكن لا بدّ من التفتيش عنها في مكان آخر تماماً وغير متوقّع.
والبداية تعود إلى عام 2016 عندما فتحت الصين شهية الإيرانيين على المال والاقتصاد، بعد أن بدأت باستيراد 90 في المئة من النفط الإيراني، ومن ثم وقّعت معها معاهدات اقتصادية وتجارية ضخمة سمحت لإيران بالتحايل قليلاً على العقوبات الغربية المفروضة عليها والتي أنهكت اقتصادها. وتبعت ذلك بداية أعمال تطوير البنية الأساسية لسكّة حديدية تربط بين إيران وكازاخستان وأوزبكستان وصولاً إلى الصين، ما يسمح بايصال البضائع من شنغهاي إلى طهران في 12 يوماً بدلاً من 30 يوم في البحر.
بدأت ايران تكتشف حجم دورها الجديد إلى جانب الصين، على عكس الدور الثانوي الضعيف الذي أمضت سنوات تلعبه مع روسيا، فباتت الآن شريكاً معتبراً لأعظم قوة اقتصادية في العالم، والتي وعدت أيضاً عام 2011 على لسان أحد جنرالات جيش التحرير الشعبي الصيني أن أي اعتداء على حقول النفط الإيرانية سيكون بمثابة اعتداء على الصين نفسها.
ودغدغت الصين مشاعر إيران أكثر فأكثر في شهر آذار عام 2023 عندما توسّطت في التقارب السعودي الإيراني واستئناف علاقاتهما الديبلوماسية بعد قطيعة 7 أعوام. وبهذه الخطوة، كما لو أن الصين قالت لإيران: إذا كانت السعودية شريكة الأميركيين في المنطقة، فأنت شريكتي!
وهناك كثير من المؤشرات التي تؤكّد أنّ إيران بدأت تعاني من الأيديولوجيا الزائدة التي أنهكت اقتصادها، وأفقرت شعبها، وحرّكت الشارع ضدها، وأرهقت سياساتها بمعارك أذرعها في لبنان والعراق واليمن وسوريا التي أصبحت حملاً ثقيلاً على كلّ من الرأي العام الداخلي وخزينة الجمهورية.
ومن المؤشرات الاقتصادية إلى المؤشرات الأمنية والعسكرية، التي تؤكّد أكثر فأكثر التوجهات الإيرانية المستجدّة التي تفسّر بشكل واضح سبب امتناع إيران التام عن الانتقام لكلّ الاغتيالات لعلمائها وضباطها وعدم الردّ عن كل الانتهاكات لسيادتها وعمليات طعن أذرعها… ولا بدّ من طرح سؤال حيّر عقول الحلفاء والخصوم: ما كانت ردّة فعل إيران على أي انتهاك؟
لا شيء.. انتقاماً لاغتيال قاسم سليماني عام 2020
لا شيء.. انتقاماً لاغتيال محسن فخري زاده عام 2020
لا شيء.. انتقاماً لاغتيال رضى موسوي عام 2023
لا شيء.. انتقاماً لاغتيال محمد رضا زاهدي عام 2024
لا شيء.. انتقاماُ لاغتيال محمد هادي رحيمي عام 2024
لا شيء.. انتقاماً لاغتيال إسماعيل هنية عام 2024
وأكثر من ذلك، ماذا فعلت إيران بعد مقتل قرابة 40 ألف مدني في غزة على مدى 12 شهراً، وماذا فعلت بعد عربدة طيران العدو الإسرائيلي في سماء لبنان وتدمير منازل المدنيين في الضاحية والجنوب والبقاع وقتل أكثر من 1600 لبناني، وماذا ستفعل إيران انتقاماً على اغتيال حسن نصر الله… ربما الجواب واضح وضوح الشمس ومعطوف عليه وضوح الردّ الإيراني على كل عمليات الاغتيال السابقة من بيروت إلى دمشق فطهران!
لا عقل ولا منطق ممكن أن يتّهم إيران بـ”قبّة باط” في عملية اغتيال السيد نصر الله، وهي التي تعتبر الحزب في لبنان جوهرة تاج الثورة الإسلامية وأثمن ما تملكه خارج حدودها الجغرافية… ولكن!
نعش السيد حسن لم يكن صناعة لحظة اختراق استخباراتي خارجي، وتسريبات قاتلة من جواسيس الداخل… نعش السيد بدأ تصميمه منذ سنوات، وكانت تُدق مساميره على مراحل حتى بات جاهزاً في 27 أيلول.
أول مسمار دُقّ في نعش السيد نصر الله كان السقوط المريب لمروحية الرئيس الإيراني السابق المتشدّد إبراهيم رئيسي في ظروف غامضة، وهو الذي كان من أشدّ المدافعين عن فكر المقاومة الشرق أوسطية… وما هي إلّا أيام ودُقّ المسمار الثاني في الانتخابات الرئاسية الإيرانية التي جاءت بالرئيس الإصلاحي إبراهيم بزشكيان الذي شكّل فوزه صدمة لأنصاره قبل خصومه، الذين لم يصدّقوا أنه تمكّن حتى من اجتياز مجلس صيانة الدستور الإيراني. ومنذ أول يوم في ولايته، وعد الرئيس الجديد بتعديل النظرة المحافظة لإيران، وتحسين العلاقات مع الغرب، والعمل على إصلاح شرطة الأخلاق سيئة السمعة في البلاد، والأهم إجراء مفاوضات بشأن تجديد الاتفاق النووي المتعثر منذ عام 2015. وتوالت المسامير تارة بمطرقة أمنية وتارة أخرى على سندان سياسي، فمن “مجزرة البايجرز” إلى الاستهداف الدقيق والناجز لأبرز قيادات الحزب مثل فؤاد شكر وإبراهيم عقيل، وصولاً إلى تصريحات إيران على لسان وزير خارجيتها ورئيسها في نيويورك للمطالبة بعودة المفاوضات مع الغرب وإرساء لغة الحب والسلام مع إيران جديدة ومتجدّدة، بات واضحاً أن مصلحة إيران كجمهورية باتت أكبر بكثير من مصالح مقاوماتها في الشرق الأوسط.
بالطبع أن إيران لم تقتل السيد نصر الله، ولكن إسرائيل من جهتها، استغنمت فرصة فرط الشهية الإيرانية على المال والاقتصاد وتظهير صورة جديدة عن الدولة أمام الغرب والعالم، واطمأنت مسبقاً إلى أن إيران لن تنتقم لأي انتهاك أو اغتيال، لتنقضّ على حزب الله وقياداته في لبنان، ولتغتال أمينه العام بعد صوم قسري إمتدّ في أقل تقدير لأكثر من 18 سنة، أي منذ حرب تموز 2006.
هل إيران هي التي خانت فكر حسن نصر الله الذي قاده رغم التهديدات والمخاطر إلى مركز قيادة الحزب في الضاحية يوم 27 أيلول… أم أن السيد نفسه هو الذي خان فكر الجمهورية الإسلامية الهارب من أيديولوجيا السبعينات إلى تكنولوجيا صنعت في الصين بهدف بيعها في الغرب؟
عاش الأوروبيون لقرون طويلة تحت نير الملوك المتعاقبين على إفقارهم وإخضاعهم والمحافظة بأي ثمن على حياة الحاكم، وكل ذلك بسبب جملة واحدة كانوا يرددونها: “مات الملك… عاش الملك”.
ولكن السؤال، هل سينتبه الشيعة في لبنان، على رغم السلاح والمال والسلطة، إلى هذا الخضوع المفروض عليهم من إيران، وهل سيردّدون في الأيام المقبلة: “مات السيد… عاش المرشد”؟
مواضيع مماثلة للكاتب:
كذب الممانعون ولو صدقوا! | لبنان مجرّد فأر اختبار! | نواف الموسوي.. غلطة الغشيم بمئة ألف! |