لبنان… زمن القيامة أو لحظة السقوط؟

آن الأوان لأن تتحوّل الشهادة التي دعا إليها المجمع الماروني إلى برنامجٍ وطنيّ جامعٍ: أن يشهد المسيحي لإيمانه في وطنٍ يشترك فيه مع المسلم، وأن يشهد المسلم لإيمانه في فضاءٍ يكرّم حرّية الآخر، لا يلغيه. لبنان لا يحتاج إلى شعاراتٍ تكرّس “العيش المشترك”، بل إلى دولةٍ تحفظ هذا العيش بالدستور أولًا، وتؤمّن له استمراريته بالمؤسّسات.
كتب طوني كرم لـ”هنا لبنان”:
في بلدٍ تتداخل فيه الأديان والمذاهب، وتتنازع فيه السرديّات، يبدو الحديث عن “لبنان الكبير” أكثر من مجرّد استعادة تاريخيّة. إنّه فعل مواجهة مع الذّات الوطنية، وإعادة طرح سؤال الشرعية والمشروعية على الدولة ومؤسّساتها، وسط أزمة كِيانية غير مسبوقة.
قدّم المجمّع البطريركي الماروني عام 2006 مراجعةً لافتةً لموقع الموارنة في تأسيس لبنان الحديث، حيث دَحَضَ ما شاع عن أن خيار العيش المشترك كان بدافع مصلحة طائفية ضيقة. وأكّد أن المبادرة إلى قيام لبنان الكبير لم تكن إلا تعبيرًا عن إيمانٍ عميقٍ بأن جوهر الإيمان يتجلّى في الشراكة مع الآخر المختلف، لا في الانغلاق عليه أو الترفّع عنه.
هذا الموقف، الذي يتجاوز الاعتذار إلى الاعتراف الصريح بالدّور التاريخي في رسم حدود الكِيان وتحديد طبيعته، يشكّل في جوهره تأسيسًا معنويًا وفكريًا للدولة اللبنانية بصفتها مشروع عيش مشترك لا مساحة صراع مقنّن.
الإيمان بالدولة لا الطائفة: جوهر الشهادة
مغزى الشهادة للإيمان، وِفق المجمع، لا يكمُن في العيش وسط بيئةٍ متجانسةٍ، بل في القدرة على تحمّل مسؤولية التعدّد والتفاعل مع الآخر المختلف. هذا المفهوم يجب أن يكون حجر الزاوية في أي محاولة لإعادة بناء لبنان، حيث لا يمكن أن تقوم الدولة إذا بقيت الطوائف هي المرجع الأعلى، والولاءات المذهبية تتقدّم على الولاء للوطن.
الدولة ليست مساحة تنازلات، بل صيغة شراكة نابعة من قناعة بأنّ الآخر ليس خصمًا بل شريكًا. فحين تتقدّم الأنانيّات الجماعية على المنفعة العامة، يُفرَّغ الدستور من مضمونه، وتُصاب المؤسّسات بالشلل، كما هي حال لبنان اليوم.
أزمة نظام أم أزمة معنى؟
ما يعيشه لبنان منذ سنوات، ويتفاقم يومًا بعد يوم، لم يعد مجرّد أزمةٍ اقتصاديةٍ أو سياسيةٍ. إنّه أزمة نظام وأزمة معنى في آنٍ. دولة اعتادت أن تكون بلا رئيس، بلا حكومة فاعلة، بلا قضاء مستقل، بلا محاسبة، بلا مؤسسات إنتاجية، وبلا خريطة طريق.
لكنّ الأدهى أنّ اللبنانيين فقدوا الثقة في أنّ هذا الكيان ما زال قادرًا على تأمين الحدّ الأدنى من العدالة والحياة الكريمة. وهنا مكمنُ الخطر الحقيقي: عندما يتآكل الإيمان بفكرة الدولة، يُصبح الوطن ركامًا قانونيًا وشعارات فارغة.
في زمن القيامة: هل من قيامة للدولة؟
مع بداية عهد سياسي جديد، يُقال إنّه سيكون “زمن القيامة”. لكنّ القيامة، بمفهومها الوطني، لا تحدث بالخطابات والنيّات الطيّبة. إنها تحتاج إلى إرادة سياسية جذرية تعيد الاعتبار لما يلي:
– الدستور كمرجعيةٍ لا كأداة تعطيل: تطبيق الدستور هو الضمانة الوحيدة لإعادة تنظيم الحياة السياسية على أسسٍ عادلة، بعيدةً عن الابتزاز الطائفي أو تعطيل الميثاقية لمصلحة المحاصَصَة.
– اللّامركزية الإدارية كمدخلٍ إصلاحي لا انفصالي: تفعيل اللّامركزية يوفّر الإنماء المتوازن ويقلّص من سيطرة المركز المختلّ، من دون أن يُحوّلها إلى منصةٍ للتقسيم أو الشرذمة.
– إعادة بناء مؤسسات الدولة كأولويةٍ وطنية: لا يمكن الحديث عن عقدٍ اجتماعيّ جديدٍ في ظلّ غياب قضاءٍ مستقلٍ، وغياب رقابةٍ، وفسادٍ إداريّ مستشريّ.
– تكريس مبدأ المواطَنة فوق الطائفة: لبنان لا يُحكم بعدالةٍ إلّا إذا أصبح المواطن هو الوحدة الأساسيّة للحقوق والواجبات، لا الطائفة.
شهادة الإيمان اليوم: بناء الدولة
لقد آن الأوان لأن تتحوّل الشهادة التي دعا إليها المجمع الماروني إلى برنامجٍ وطنيّ جامعٍ: أن يشهد المسيحي لإيمانه في وطنٍ يشترك فيه مع المسلم، وأن يشهد المسلم لإيمانه في فضاءٍ يكرّم حرّية الآخر، لا يلغيه.
لبنان لا يحتاج إلى شعاراتٍ تكرّس “العيش المشترك”، بل إلى دولةٍ تحفظ هذا العيش بالدستور أولًا، وتؤمّن له استمراريته بالمؤسّسات.
إنْ لم تعدْ الدولة هي الضامن، فلن تكون الطوائف قادرةً على الاستمرار. وإنْ لم يكن الدستور هو الفيصل، فلن يكون سوى ميزان قوى لحظي، لا يبني وطنًا ولا يؤسّس مستقبلًا.
بين القيامة والسقوط
في لحظةٍ وطنيةٍ حرجةٍ كهذه، لا يمكن لزمن القيامة أن يُعلَن من دون صلبٍ حقيقيّ: صلب للأنانيّات، صلب للطموحات الفئويّة، صلب للذهنيّة الطائفيّة.
فإمّا أن نعيد تكوين الدولة على أسس الإيمان الحقيقي بالتعدّد، أو نظلّ عالقين في دوّامة الفراغ والانهيار.
لبنان الكبير لم يكن خطأً تاريخيًا، بل دعوةً جريئةً إلى بناء دولة من المختلفين، لا دولة للطوائف. وإن لم نستثمر هذه اللحظة الصعبة لاستعادة روحيّة التأسيس، فلن تكون هناك قيامة… بل دفنٌ بطيءٌ لكيان كان يمكن أن يكون نموذجًا.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() بيروت: معركة تمثيل… أم بداية شرخ جديد؟ | ![]() بين ذاكرة الحرب وأمل الدولة: لبنان على مفترق طرق | ![]() الانتخابات البلدية: تكريس النفوذ الحزبي وتجريد المواطن من القرار |