قروضٌ “مميتة” خلف “أملٍ مزيّف”: إحذروا فخّ صندوق النّقد الدولي

على الرَّغم من تنفيذ مِصر لهذه الإجراءات، رفض الصندوق صرف الدفعة الخامسة من القرض إلّا بعد رفع الدعم الكامل عن أسعار الطاقة. أمّا النتيجة فكانت تضخّمًا غير مسبوق، وتدهورًا في القدرة الشرائية، واستمرارًا في تراجع المؤشرات التنموية. والمفارقة أن مِصر أصبحت ثاني أكبر دولة مقترضة من الصندوق عالميًا، على الرَّغم من مضي ست سنوات فقط على انخراطها في برامج “الإصلاح”.
كتبت إليونور إسطفان لـ”هنا لبنان”:
تُظهر تجارب عددٍ كبيرٍ من الدول مع المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها “صندوق النقد الدولي”، أنّ هذه الشراكات كثيرًا ما تؤدّي إلى نتائج عكسية. فعوضًا عن إنقاذ الاقتصادات من أزماتها، ساهمت برامج التمويل التي يُفترض أنّها إصلاحية في تعميق المشكلات البنيوية والمالية. في عددٍ من الحالات، لم تكن هذه البرامج سوى حلول موقتة تنتهي لتُستبدل بأخرى مماثلة، فتجد الدول نفسها عالقةً في دوّامةٍ من القروض والشروط، من دون أيّ مخرج حقيقي. أما ما يُقدَّم كإصلاحات اقتصادية، فقد أثبت الواقع أنّها تؤدّي في العديد من التجارب إلى تفاقم الأزمات، وإلحاق أضرار مباشرة بالبنية الاجتماعية والاقتصادية للبلدان المعنية.
في ما يلي أبرز الأمثلة على فشل برامج صندوق النقد الدولي في عددٍ من الدول:
* المكسيك: في أوائل ثمانينيّات القرن الماضي، واجهت المكسيك أزمةً حادةً بسبب الانخفاض الكبير في أسعار النّفط العالمية. حينها لجأت إلى صندوق النقد الدولي، الذي قدّم ما يُعرف بـ”خطة بيكر”، وحصلت بموجبها على قرض بقيمة 3.4 مليارات دولار. لكنّ النّتيجة لم تكن كما هو مرجوّ. فقد تدهور الاقتصاد بشكلٍ حادّ، وسيطرت الولايات المتحدة، من خلال صندوق النّقد، على المالية العامة المكسيكيّة. وتَرافق ذلك مع خروج حوالي 45 مليار دولار من البلاد نحو الولايات المتحدة، وارتفاع معدّلات الفقر، ما أدّى إلى موجات هجرةٍ ضخمةٍ إلى الخارج.
* الأرجنتين: منذ عام 2001، يعاني الاقتصاد الأرجنتيني من أزماتٍ مزمنةٍ، تشمل العجز المالي، والانكماش الاقتصادي، وارتفاع نسب الفقر. وقد تجاوز معدّل التضخّم في البلاد حاجز 50%. اللّافت أن صندوق النقد الدولي كان طوال هذه الفترة شريكًا ثابتًا للأرجنتين، حيث استمرّت برامج الإقراض من دون أن تحقّقَ نتائجَ إيجابية. تعود العلاقة مع الصندوق إلى عام 1999، حين اعتمدت الحكومة سياسة الخَصْخَصَة في قطاعاتٍ حساسةٍ مثل النفط، والاتصالات، والطاقة. وفي عام 2018، وقّع الرئيس الأرجنتيني ماكري اتفاقًا مع الصندوق للحصول على قرض بقيمة 57 مليار دولار، حصلت الحكومة منه على 44 مليارًا. لكن سريعًا ما أعلنت عجزها عن سداد الدين. ومع تطبيق شروط البرنامج، تدهور الاقتصاد بسرعة، وارتفع الدين العام من 241 إلى 321 مليار دولار، أي ما يفوق 90% من النّاتج المحلي في عام 2019. تَزَامَنَ ذلك مع انهيار سعر الصرف وهروب رؤوس الأموال، ما دفع الحكومة إلى تبنّي إجراءات تقشّفية صارمة، أسفرت عن ارتفاع نسبة الفقر إلى 35%.
* الصومال: في عام 1980، منح صندوق النقد الدولي الصومال قرضًا بقيمة 150 مليون دولار، في محاولةٍ لدعم اقتصاد البلاد. إلّا أنّ تطبيق التوصيات المرفقة بالتمويل أدّى إلى انهيار اقتصادي واسع النطاق، تبعه تفكّك في مؤسسات الدولة، واندلاع حرب أهلية طويلة الأمد. اليوم، وبعد أكثر من 40 عامًا على ذلك القرض، لا تزال الصومال تعيش حالةً من الانقسام والفقر المدقع، وتُعَدُّ من بين أخطر الأماكن على وجه الأرض.
* السودان: في عام 1982، تلقّى السودان قرضًا بقيمة 260 مليون دولار ضمن برنامجٍ للإصلاح الهيكلي. غير أنّ هذه الإصلاحات لم تحقّق الأهداف المرجوة، وواجهت طريقًا مسدودًا، بينما بقيت البلاد مطالبةً بسداد القروض والفوائد المرتفعة بأي وسيلة ممكنة، ما فاقم من أزماتها المالية.
* الأردن: في آب 2016، وافق صندوق النقد الدولي على منح الأردن قرضًا بقيمة 723 مليون دولار يمتدّ على ثلاث سنوات. إلّا أنّ هذا لم يكن القرض الأول، فقد سبقه العديد من برامج التمويل منذ 2012، من دون أن ينجح أي منها في خفض الديْن العام بشكل ملموس، على الرَّغم من اعتماد الحكومة على إجراءات تقشفية مشدّدة. في 2017، رأى الصندوق أنّه من الضروري توسيع القاعدة الضريبيّة لاحتواء الديْن المتصاعد، وهو ما قاد إلى احتجاجاتٍ شعبيةٍ واسعةٍ في 2018، تنديدًا بارتفاع الأسعار وتراجع الإنفاق الحكومي.
* مِصر: تُعَدُّ التجربة المصرية نموذجًا آخر على فشل تلك البرامج في إحداث تحوّل اقتصادي فعلي. ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وقّعت مِصر اتفاق قرضٍ بقيمة 12 مليار دولار، في ظلّ أزمة مركّبة شملت عجز الموازنة، وتراجع الاحتياطي من النّقد الأجنبي، وتفاقُم الديْن، وانخفاض سعر الجنيه. لم يُفعّل القرض إلّا بعد أن التزمت الحكومة بسلسلة من الشروط الصارمة: تحرير سعر الصّرف، تقليص الدعم، خصخصة ممتلكات الدولة، وزيادة الضرائب. على الرَّغم من تنفيذ هذه الإجراءات، رفض الصندوق صرف الدفعة الخامسة من القرض إلّا بعد رفع الدعم الكامل عن أسعار الطاقة. أمّا النتيجة فكانت تضخّمًا غير مسبوق، وتدهورًا في القدرة الشرائية، واستمرارًا في تراجع المؤشرات التنموية. المفارقة أن مِصر أصبحت ثاني أكبر دولة مقترضة من الصندوق عالميًا، على الرَّغم من مضي ست سنوات فقط على انخراطها في برامج “الإصلاح”.
* تونس: ما بين 1987 و2001، وقّعت تونس 9 اتفاقيات قروض مع الصندوق، من دون أن تحقق نموًّا فعليًّا، بل أدّى التقشّف إلى تفاقم الفقر والبطالة، وتراجع الخدمات العامة. في 2013، حصلت على قرضٍ جديدٍ بقيمة 1.74 مليار دولار، بشروط رفعت كلفة المعيشة، وفرضت ضرائب جديدة، وخفّضت الدعم، ما تسبب باحتجاجاتٍ شعبيةٍ. وفي 2016، تقدّمت تونس بطلب قرض جديد بـ2.8 مليار دولار، فصُرفت لها 320 مليون دولار فقط، ثم جُمّدت الدفعات اللاحقة لعدم التزامها بشروط إضافية شملت إلغاء آلاف الوظائف وخصخصة بنوك وزيادة ضرائب.
* باكستان: فشل صندوق النقد الدولي في إعادة الاقتصاد الباكستاني إلى السكة الصحيحة، ولم تتوقّف الدولة عن طلب القرض تلو الآخر من دون جدوى. وعلى الرَّغم من التاريخ الطويل من التعاون بين باكستان والمؤسسة الدولية، وحصولها بموجبه على 23 برنامجًا تمويليًّا، لم تتمكن إسلام آباد من الخروج من أزمتها. في 26 آذار 2025، أعلن صندوق النقد الدولي عن توصله إلى اتفاق مبدئي مع الحكومة الباكستانية لمنحها قرضيْن جديديْن بقيمة إجمالية تبلغ مليارَيْ دولار أميركي، من حزمة الإنقاذ السابقة التي تبلغ 7 مليارات دولار، والتي تمّ التوصل إليها في عام 2023. الاتفاق الجديد، الذي يُعدُّ الـ24 لباكستان منذ عام 1958، يرتبط بشروطٍ صارمةٍ، من بينها زيادة الضرائب وأهمها ضريبة الدخل، وخفض الدعم الحكومي لقطاع الكهرباء، وتبنّي سياسة نقدية متشدّدة. وتعَدُّ باكستان واحدةً من أكبر ثلاث دول مثقلة بالديون لصالح صندوق النقد الدولي.
* هايتي: تُعد هايتي أكثر دولةٍ في العالم حصلت على برامج من صندوق النقد الدولي، بنحو 30 برنامجًا. ويؤكد العديد من الخبراء أنّ برامج الصندوق لهايتي تمثّل تاريخًا طويلًا من الفشل.
صندوق النقد الدولي، كمؤسسة تمويلية، يفرض شروطًا مقابل القروض، وهو أمر قد يكون مفهومًا من منطلق اقتصادي. لكنّ المقلق هو خضوع الدول التام لتلك الشروط من دون تفاوض حقيقي يراعي مصالح شعوبها. والعديد من الخبراء يحذّرون ويَتّهمون المؤسسات الدولية بإثقال كاهل الدول بالديون.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() إلى المراهنين على صندوق النقد الدولي | ![]() تصريحات غسان سلامة… تمييع للسيادة في لحظةٍ حرجة | ![]() فرنسا تلملم خيباتها… وتبحث عن دورٍ جديد عبر “أزعور”! |