في عصر الذّكاء الاصطناعي… لبنان لا يزال يبحث عن إشارة “Wi-Fi”

في عصرٍ تتحرك فيه الأمم بسرعة الضوء، لا يليق بلبنان أن يبقى عالقًا في زحمة الإشارات المقطوعة. وعلى الرَّغم من المبادرات الخجولة والخطوات المتأخرة، لا تزال الحاجة ملحّةً إلى إرادة سياسية واضحة، وخطة وطنية شاملة تنهض بقطاع الاتصالات من تحت الركام.
كتبت ناديا الحلاق لـ”هنا لبنان”:
في زمنٍ باتت فيه تقنيات الذّكاء الاصطناعي تقود اقتصادات العالم وتغيّر وجه الحياة اليومية، لا يزال اللبنانيون عالقين في معركةٍ يوميةٍ بحثًا عن إشارة “Wi-Fi” مستقرّة. بلدٌ يُفترض أنه يتجه نحو الرقمنة والانفتاح على العصر الرقمي، ما زال يعاني من واحدة من أبسط مقوّمات الحياة الحديثة: الإنترنت.
مشكلة الإنترنت في لبنان لم تعد مجرّد ضعفٍ في الخدمة، بل تحوّلت إلى آفةٍ حقيقيةٍ تطال كلّ بيت ومؤسسة، وتُعطّل أعمال الطلاب والموظفين وأصحاب الشركات. فمن دون إشارةٍ ثابتةٍ للإنترنت، لا عمل من المنزل ولا شركات ناشئةولا تعليم عن بُعد، ولا حتى أبسط أشكال التواصل.
في المقابل، يعيش العالم لحظة تحوّل غير مسبوقة عبر تقنيات الذّكاء الاصطناعي، وتحقيق قفزات في القطاعات الطبية والمالية والتعليمية… فيما اللبناني ما زال يعاني ليحمّل بريده الإلكتروني أو يُجري مكالمةً ثابتةً أو يعقد اجتماعًا عبر “Zoom”.
فكيف يعقل أنّ بلدًا يزخر بالكفاءات والطاقات الشابّة المتألقة في دنيا الاغتراب، يُحرم من أبسط حقٍ في الاتصال، في وقتٍ بات فيه الإنترنت حاجةً لا تقل أهميةً عن الماء والكهرباء؟ وما الذي أوصل قطاع الاتصالات إلى هذا الدرك؟
أسبابٌ متشابكةٌ لأزمةٍ واحدةٍ
المستشار في شؤون تكنولوجيا المعلومات والإتصالات عامر طبش يقول لموقع “هنا لبنان: “أزمة الإنترنت في لبنان ليست عارضًا طارئًا، بل نتيجة تراكمات سنواتٍ من الإهمال والفساد والقرارات السياسية العقيمة. الشبكات لا تزال تعتمد على بنيةٍ تحتيةٍ عمرها أكثر من ثلاثين عامًا، إذ ما زالت الكابلات النّحاسية التي تعود إلى التسعينيّات تُستخدم، في ظلّ غيابٍ شبه تام لتغطية فعّالة بشبكة الألياف البصرية (Fiber Optics)”.
ويضيف طبش: “كما أن الانقطاع المُزمن للكهرباء جعل من وزارة الاتصالات مزوّدةً للطاقة بالاضطرار، إذ يُصرف جزء كبير من ميزانيتها على شراء المازوت لتشغيل السنترالات والمقاسم، بدل توجيه الموارد نحو تطوير القطاع وتوسيعه. ويأتي ذلك في وقتٍ تُركت فيه البنى التحتية من دون صيانة أو تحديث، لتنهار تدريجيًا أمام ضغط الطلب وتطوّر التكنولوجيا عالميًا”.
وعن البنى التحتية، يشير طبش إلى أنّ “غياب الصيانة والتحديث المنهجي، أدّيا إلى تآكل الشبكة تدريجيًا وعجزها عن مواكبة الضغط المتزايد، ممّا فاقم سوء الخدمة ورداءتها”.
عرقلة المشاريع بسبب السياسة والخوف الأمني
ومن العوائق التي أشار إليها طبش، كانت العرقلة السياسية لمشاريع حيوية، أبرزها مشروع “قدموس 2” الذي كان يفترض أن يعزّز السعات الدولية ويصل لبنان بشبكات الإنترنت العالمية. المشروع تعطّل لسنواتٍ بسبب اعتراضٍ سياسي، خصوصًا من “حزب الله”، الذي اعتبر أنّ الربط مع قبرص عبر كابلٍ دولي يشكّل خطرًا أمنيًا أو بوابةً للتطبيع غير المباشر مع إسرائيل”.
ويقول طبش: “على الرَّغم من ذلك أعيد إحياء المشروع مؤخرًا، ومن المتوقع أن يدخل حيّز التنفيذ قريبًا، ما سينعكس تحسّنًا ملموسًا في جودة الإنترنت وسعته”.
الإنترنت غير الشرعي… دولة داخل الدولة
من جهة أخرى، يسلّط طبش الضوء على آفة الإنترنت غير الشرعي المُنتشر في مختلف المناطق: “شركات ومزوّدون يمدّون شبكاتهم من دون ترخيص، ويفرضون أسعارًا بلا رقابة، ويقدّمون خدماتٍ متدنية الجودة”.
ويشير إلى أن “غياب الهيئة النّاظمة للاتصالات وفّر غطاءً لهذه الفوضى، حيث يعمل هؤلاء خارج القانون ومن دون حسيب أو رقيب، ما يضرّ بالسوق وبالمستهلك معًا”.
خطوات إصلاحية ولو بطيئة
على الرَّغم من سوداوية الواقع، يؤكّد طبش أن “هناك تحركاتٍ إيجابيةً بدأت تظهر، خصوصًا مع وزير الاتصالات الحالي شارل الحاج، الذي أطلق خططًا لتوسيع شبكة الألياف، وأسّس رسميًا شركة “ليبان تيليكوم” بعد سنوات من المماطلة. كما يسعى لتفعيل الهيئة الناظمة للاتصالات، وهي خطوة ضرورية لضبط السوق، وتشجيع الاستثمارات، ووقف التجاوزات”.
ويختم طبش: “على الرَّغم من بطء وتيرة الإصلاحات، إلّا أنّ القطار بدأ يسلك السكة الصحيحة. المهم الآن هو الاستمرار بالزخم نفسه، وتوفير المناخ الأمني والسياسي الذي يسمح بنهضةٍ حقيقيةٍ لهذا القطاع الحيوي”.
في عصرٍ تتحرك فيه الأمم بسرعة الضوء، لا يليق بلبنان أن يبقى عالقًا في زحمة الإشارات المقطوعة. وعلى الرَّغم من المبادرات الخجولة والخطوات المتأخرة، لا تزال الحاجة ملحّةً إلى إرادة سياسية واضحة، وخطة وطنية شاملة تنهض بقطاع الاتصالات من تحت الركام. فالمشكلة لم تعد تقنيةً فحسب، بل باتت تمسّ كرامة المواطن وحقّه في الحد الأدنى من التواصل والتطور. فإما أن يترجم هذا الوعي إلى تغيير جذري في السياسات والممارسات، أو يبقى لبنان متفرجًا من خارج الشبكة، في زمنٍ بات فيه الانفصال عن الإنترنت أشبه بالعزلة عن العالم.