لبنان آخِرُ مَن يوقِّع… وآخِرُ مَن يَعلَم!

سينتظر اللبنانيون إيران لتأتي منها الكلمة حول السلاح ومستقبل “الحزب”، وسينتظرون السعودية لتحصل الدولة على الضوء الأخضر السياسي والمالي، وسينتظرون “سوريا الجديدة” كما انتظروا “سوريا القديمة” لأنهم لم يخرجوا أساساً من عقدة “وحدة المسارين”، وسينتظرون الحل للملف الفلسطيني باعتباره “أصل الحكاية”، وطبعاً سينتظرون دائماً وأبداً رضا أميركا، لأن الكلمة لها أولاً وآخراً
كتب طوني عيسى لـ”هنا لبنان”:
شرق أوسط جديد يولد مع زيارة دونالد ترامب للمملكة العربية السعودية. هذه المرة، المشاريع ناضجة كما لم تكن في أي يوم. وما أفرزته حرب غزة، ثم حرب لبنان، ثم سقوط الأسد، أحدث تغيّرات مفصلية ستبدل تماماً معادلات المنطقة، وعلى مدى عقود.
“الكاوبوي” الأميركي المولع بالصفقات أعد العدة جيداً لزيارة باهرة: انفراج مثير في التعاطي مع دمشق واعتراف بنظامها الجديد، بناء على تنازلات بدأ تقديمها في مسألة العلاقة مع إسرائيل.
فقد سبقت وصول ترامب معلومات عن أقنية اتصال مباشرة وغير مباشرة بين حكومة الشرع وإسرائيل، وسرى كلام على استعداد هذه الحكومة للدخول في تفاهمات مع إسرائيل. ومن شأن هذا الأمر أن يحدث انقلاباً في المعادلات الإقليمية.
والوصول إلى هذه المرحلة لم يكن مفاجئاً. فموفد ترامب إلى الشرق الأوسط، الديبلوماسي المحنك جداً، ستيف ويتكوف، كان قد رسم تصوراً لمسار التطبيع بين إسرائيل وكل من لبنان وسوريا، مباشرة بعد التوصل إلى اتفاق وقف النار في لبنان وسقوط الأسد في سوريا. وعندما سئل عن ذلك في آذار الفائت قال: لقد جرى طرد إيران. وبالتعبير الحرفي، يمكن للبنان تطبيع علاقاته مع إسرائيل عن طريق معاهدة للسلام، وهذا ما ينطبق على سوريا أيضاً، في سياق عملية أوسع نطاقاً لإحلال السلام في المنطقة، من مستلزماتها إقامة تحالف بين دول الخليج، يساهم في ضمان الاستقرار الإقليمي.
و”طموحات” ويتكوف لاقتها أصوات داعمة في الداخل الإسرائيلي، بينها رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت الذي طالب نتنياهو بخرق الجدار، وفتح قنوات حوار مع إدارة الشرع والاعتراف بشرعيتها. ويعتقد أولمرت أن الخرق مع سوريا يمهد الطريق لمحادثات سلام مع لبنان.
إذاً، البرمجة التي يعمل لها ويتكوف، مهندس سياسات ترامب الشرق أوسطية حالياً، هي الآتية:
1- مشروع سلام وتنمية ضخم في غزة، كجزء من صفقة جديدة تتناول الملف الفلسطيني برمته.
2- إحداث خرق تاريخي في العلاقات بين إسرائيل وسوريا.
3- إدخال لبنان في مسار الحلول السلمية.
والباب الوحيد للدخول في هذه الصفقات، كما يرى الأميركيون، هو المملكة العربية السعودية التي تغطي كل التسويات برمزيتها العربية والإسلامية الوازنة معنوياً ومادياً. فلا أموال ولا استثمارات لتحويل غزة إلى ريفييرا الشرق الأوسط من دون المملكة والخليجيين عموماً، ولا قدرة على إعمار سوريا ولا غطاء سياسياً لحكومتها في السلام والتطبيع من دون المملكة، ولا قدرة للبنان على الخروج من أزمته ولا ضوء أخضر لينجز التفاهمات مع إسرائيل ما لم تمهد المملكة لذلك بالتغطية المالية والسياسية. وأساساً، شرط المملكة للسلام محدد بوضوح، وهو إقرار إسرائيل بالمبادرة العربية للسلام التي أعلنت في قمة بيروت، في العام 2002، والقائمة على مبدأ الأرض مقابل السلام.
أبلغ ترامب المملكة أن واشنطن ستلتزم بقوة توفير كل الظروف التي تسمح لقيادتها الشابة بتنفيذ خطط 2030 الطموحة، وركيزتها السلام الإقليمي. كما ستلتزم بحل الملف الفلسطيني وفق معادلة الأرض مقابل السلام، أي الاعتراف بدولة للفلسطينيين. وأما مسائل الأمن العالقة مع لبنان وسوريا فمن السهل حلها بالمفاوضات والترتيبات المشتركة، بعد تراجع نفوذ طهران.
حتى الآن، يلتزم بنيامين نتنياهو صمتاً مطبقاً إزاء ما يفعله ترامب في جولته الخليجية. ففي المبدأ، هناك تباين في الأهداف بين الأميركيين والإسرائيليين في الشرق الأوسط، كما هناك اختلاف في الأسلوب والمقاربات بين الرجلين. فنتنياهو يريحه أن يتكفل ترامب بتجحيم نفوذ طهران ومنعها من اقتناء سلاح نووي، كما يريحه فتح الأبواب مع السعودية والمزيد من الدول العربية، وتحويل سوريا ولبنان إلى جارين متفاعلين اقتصادياً، وليس فيهما سلاح يوجَّه في أي لحظة إلى إسرائيل. ولكن، ليس مؤكداً أن رؤية إسرائيل العميقة إلى مستقبل الشرق الأوسط ودوله وكياناته هي نفسها رؤية الولايات المتحدة. وثمة من يعتقد أن إسرائيل ربما تختار من المشروع الأميركي ما يناسبها وتعمل على تعطيل ما يتعارض ومشروعها، لكنها ستتجنب دائماً أي اصطدام بالحليف الأميركي.
في هذه اللحظة الحساسة، ماذا ينتظر لبنان؟
واضح أن الأميركيين كانوا يخططون في الخريف الفائت لدفع لبنان قبل سوريا إلى مفاوضات سلام مع إسرائيل، لكن التعثر في تطبيق اتفاق وقف النار وعدم الحسم في ملف سلاح “حزب الله” وإعلان لبنان الرسمي تحفظه عن الطرح الذي أطلقته نائبة ويتكوف، مورغان أورتاغوس، بتشكيل اللجان الثلاث المفاوضة، دفعت إلى تأخير التفاوض بين لبنان وإسرائيل، فيما يبدو أن سوريا تتقدم إلى المسرح.
ومن يعرف جيداً حيثيات الوضع اللبناني المعقد، يدرك أن اللبنانيين سينتظرون العالم كله قبل أن يقولوا كلمتهم في ملف المفاوضات والسلام مع إسرائيل.
سينتظر اللبنانيون إيران لتأتي منها الكلمة حول السلاح ومستقبل “حزب الله”، وسينتظرون السعودية لتحصل الدولة على الضوء الأخضر السياسي والمالي، وسينتظرون “سوريا الجديدة” كما انتظروا “سوريا القديمة” لأنهم لم يخرجوا أساساً من عقدة “وحدة المسارين”، وسينتظرون الحل للملف الفلسطيني باعتباره “أصل الحكاية”، وطبعاً سينتظرون دائماً وأبداً رضا أميركا، لأن الكلمة لها أولاً وآخراً.
وهكذا، تتحقق “النبوءة” القديمة القائلة إن لبنان سيكون “آخر من يوقّع مع إسرائيل”. وهذه “النبوءة”- التي يعتبرها بعض جهابذة السياسة عندنا “فخر الصناعة اللبنانية”- ليست أمراً مستغرباً، لأن لبنان يبدو هذه المرة كما في كل المرات السابقة آخر من يَعلم.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() الحوار حول السلاح لن ينطلق | ![]() لا “حماس” لدى “الحزب” | ![]() مخاطِر الحرب وتوسيع التواجد العسكري إلى الليطاني |