انفتاح سوريا الاقتصادي… هل يستفيق لبنان قبل فوات الأوان؟

إذا استمرّت الطبقة السياسية اللبنانية في غيابها عن مواكبة هذه التغييرات الإقليمية السريعة بعد رفع العقوبات عن سوريا، من دون اتخاذ مواقف واضحة في ملفاتٍ أساسيةٍ مثل سلاح “الحزب” أو المعابر غير الشرعية، ومن دون إقفال المؤسسات المالية غير الرسمية مثل “القرض الحسن”، فإنّ لبنان لن يتمكّن من مواكبة التحولات وسيجد نفسه متأخرًا عن جيرانه.
كتب أنطوان سعادة لـ”هنا لبنان”:
في خضمّ التحوّلات السياسية والاقتصادية المتسارعة في المنطقة، يبرز رفع العقوبات الأميركية عن سوريا كحدثٍ محوريّ من شأنه أن يترك تداعياتٍ مباشرةً وغير مباشرةٍِ على لبنان، الذي يواجه أيضًا أزمةً معقدةً ومتعدّدة الأبعاد. هذا التطوّر لا يمكن النظر إليه بمعزلٍ عن الواقع اللبناني، إذ يحمل في طيّاته إيجابيات قد تسهم في التخفيف من حدّة الأزمة، وتحدّيات إذا لم يُواكب لبنان المستجدات بخطةٍ إصلاحيةٍ واضحةٍ وسريعة.
من أبرز الإيجابيات التي قد يجنيها لبنان من رفع العقوبات عن سوريا، هو التوقّف المتوقّع لعمليات التهريب عبر الحدود اللبنانية – السورية، إذ إنّ عودة سوريا إلى الأسواق العالمية ستمكّنها من الاستيراد بشكلٍ مباشرٍ، ما يُلغي الحاجة إلى التهريب الذي كان يستنزف السوق اللبنانية، ويرفع أسعار عددٍ من السلع بسبب تهريبها إلى سوريا بأسعارٍ أعلى من السوق المحلية. ومع توقف التهريب، من المرجّح أن تنخفض الأسعار في لبنان، ويخفّ الضغط على المواد الأساسية.
إلى جانب ذلك، فإنّ عودة سوريا إلى النظام المصرفي العالمي وإلى التجارة الخارجية سيقلّص من حجم الاستيراد الذي كان يتمّ عبر لبنان، وبالتالي سيساهم في خفض العجز في الميزان التجاري اللبناني، ويحدّ من خروج الدولار من السوق المحلية، وهو أمر أساسي لاستقرار سعر صرف الليرة اللبنانية. ومن شأن هذه الديناميكيّة أن تفتح نافذةً لاستقرارٍ اقتصاديّ نسبيّ في حال تمّ استغلالها بشكلٍ إيجابي.
كذلك، لا يمكن إغفال الأثر المحتمل في ملف النازحين السوريين في لبنان. فإذا عادت المنظّمات الدولية إلى العمل داخل سوريا، وبدأ الدعم الإنساني يتدفّق مجدّدًا إلى الداخل السوري، فإنّ جزءًا كبيرًا من النازحين قد يختار العودة إلى بلادهم، خصوصًا مع تحسّن الأوضاع الاقتصادية والأمنية هناك. هذه العودة ستنعكس إيجابًا على لبنان من خلال تخفيف الضّغط على البنية التحتية، وتراجع نسب البطالة بين اللبنانيين، بعد سنوات من التنافس في سوق العمل المحدودة.
ومن الإيجابيات كذلك، أنّ رفع العقوبات عن سوريا يفتح الباب أمام إعادة إحياء مشاريع إقليمية للطّاقة، مثل خط الغاز العربي الذي يمرّ من مِصر والأردن عبر سوريا إلى لبنان، إضافة إلى إمكانية ربط الشبكات مع العراق مستقبلًا. هذه الخطوط تمثّل شريانًا حيويًا يمكن أن يساهم في تحسين التغذية الكهربائية في لبنان، ويخفّف من الاعتماد على استيراد الوقود، ما ينعكس إيجابًا على الميزان التجاري، ويمنح لبنان فرصةً لإعادة تأهيل قطاعه الطاقوي المتعثّر.
في المقابل، لا يخلو هذا التحوّل من تحدّياتٍ حقيقيةٍ للبنان. فإعادة تأهيل الاقتصاد السوري، وعلى رأسه القطاع المصرفي، سيضع لبنان في موقع منافسةٍ مباشرةٍ مع سوريا، خصوصًا في ظلّ الأزمة العميقة التي يمرّ بها القطاع المصرفي اللبناني، والتي زادت من حدّتها السياسات المتخبّطة ومحاولات ضرب هذا القطاع بدلًا من دعمه. وفي حال أعادت سوريا بناء منظومتها المصرفية بكفاءة، فقد تجذب رؤوس أموال واستثمارات كان يمكن أن تذهب إلى لبنان، ما يشكل تهديدًا واضحًا لدور بيروت كمركز مالي إقليمي.
كما أنّ الموقع الجغرافي لسوريا، وأهميته الاستراتيجية، قد يمنحها أولويةً على حساب لبنان في مشاريع البنى التحتية الإقليمية، كمشاريع النفط والغاز والمرافئ. ومع تحسّن الوضع الأمني وعودة الاستثمارات إلى سوريا، فإنّ مرافئها ومطاراتها قد تستعيد دورها، ما يؤدّي إلى تراجع أهمّية لبنان كممر تجاري أو نقطة عبور، لا سيما في حال عادت حركة الطيران والسفر إلى مطار دمشق، ما سيخفّف من استخدام مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت من قبل السوريين.
ومن التداعيات المحتملة أيضًا، أن يشهد قطاع البناء في لبنان نقصًا في اليد العاملة مع عودة عددٍ كبيرٍ من العمال السوريين إلى بلادهم للمشاركة في ورش الإعمار. هؤلاء العمال شكّلوا لعقودٍ ركيزة هذا القطاع، وغيابهم قد يرفع كلفة التنفيذ ويؤثر سلبًا في وتيرة المشاريع، ما لم تبادِر الدولة إلى تنظيم سوق العمل وتأهيل بدائل محلية.
وإذا استمرّت الطبقة السياسية اللبنانية في غيابها عن مواكبة هذه التغييرات الإقليمية السريعة، من دون اتخاذ مواقف واضحة في ملفاتٍ أساسيةٍ مثل سلاح حزب الله أو المعابر غير الشرعية، ومن دون إقفال المؤسسات المالية غير الرسمية مثل “قرض الحسن”، فإنّ لبنان لن يتمكّن من مواكبة التحولات وسيجد نفسه متأخرًا عن جيرانه.
ومع تحسّن الوضع الاقتصادي في سوريا، وعودة حركة التبادل التجاري والطيران، قد نشهد تغيّرات في أنماط الحركة الإقليمية، مثل تراجع حركة السوريين عبر لبنان، لصالح مطار دمشق والمرافئ السورية. من جهةٍ أخرى، تشير المعطيات إلى وجود تخطيط استراتيجي سعودي لدعم سوريا في المرحلة المقبلة، وهو ما قد يجعل العلاقة السورية – الخليجية تتجاوز في قوتها العلاقة التي كانت تربط هذه الدول بلبنان.
خلاصة القول إنّ سوريا مقبلة على مرحلةٍ من الانفتاح الاقتصادي والمالي ستغيّر وجه المنطقة، ولبنان لا يملك ترف الانتظار. فإذا لم يتحرّك سريعًا نحو إصلاح جدّي وفعلي، فسيخسر دوره وموقعه في المعادلة الإقليمية، وسيتجاوزه جيرانه الذين باتوا يتحرّكون وفق رؤى استراتيجية واضحة، في حين لا يزال بعض المسؤولين اللبنانيين غارقين في ملفاتٍ ثانويةٍ وصراعاتٍ لا تمتّ بصلة إلى مصلحة البلاد.