صندوق النقد ليس ضرورة … أورتاغوس تضع لبنان أمام معادلة جديدة


خاص 23 أيار, 2025

أشارت نائبة المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط مورغان أورتاغوس بوضوح إلى أنّ صندوق النقد الدولي ليس ضرورة حتمية، بل خيار من بين عدة خيارات. فإذا كانت أميركا، بما تمثله من سلطة مالية عالمية، لا ترى صندوق النقد ضرورة مطلقة، فلماذا لا يزال كثير من اللبنانيين، سياسيين واقتصاديين، يصرّون على اعتباره الحل الأوحد؟ هل يعود ذلك إلى غياب الرؤية الاقتصادية البديلة؟ أم إلى رغبة خفية في تحميل الصندوق مسؤولية الإجراءات الصعبة بدلاً من تحمّلها محليًا؟

كتب أنطوان سعادة لـ”هنا لبنان”:

يسعى لبنان إلى معالجة أزماته الاقتصادية والمالية العميقة، وسط انقسام داخلي واسع حول سبل الإنقاذ المتاحة، والتباين في الرؤى بين من يطرحون صندوق النقد الدولي كمنفذ وحيد للخروج من النفق، ومن يعتبرون أنّ أمام لبنان بدائل قابلة للحياة، شرط توفّر الإرادة السياسية والقدرة على استقطاب الاستثمارات وتنفيذ الإصلاحات المطلوبة.

في هذا السياق، جاءت تصريحات نائبة المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، مورغان أورتاغوس، خلال منتدى قطر الاقتصادي، لتطرح مقاربة قد لا تندرج في إطار السائد، لكنها تستحق التوقف عندها. إذ أشارت أورتاغوس بوضوح إلى أنّ صندوق النقد الدولي ليس ضرورة حتمية، بل خيار من بين عدة خيارات. وبحسب رؤيتها، فإن لبنان لا يزال يمتلك فرصًا تتيح له تجاوز أزمته من دون أن يرتهن بالكامل لشروط صندوق النقد، وذلك من خلال تبني خطة شاملة تُعيد بناء الثقة في المؤسسات، وتحفّز بيئة استثمارية جاذبة، بعيدًا عن مزيد من الديون.

ورغم أنّ الحديث عن بدائل لصندوق النقد قد يبدو للبعض غير واقعي في ظل الأزمة العميقة، إلّا أنّ الطرح الأميركي يسلّط الضوء على إمكانيات لم تُستثمر بعد في لبنان. فهناك من يرى أن بإمكان البلاد أن تسلك مسارًا اقتصاديًا مختلفًا إذا أعادت تنظيم أولوياتها وركّزت على جذب الاستثمارات وتحقيق إصلاحات حقيقية. وهذا الطرح يطرح تساؤلات مشروعة: هل ما زال صندوق النقد هو الحل الوحيد، أم أن لبنان قادر، في حال توفرت الظروف المناسبة، على الخروج من أزمته من دون الاضطرار إلى الالتزام الكامل بشروط الصندوق؟

1. خيار صندوق النقد في ميزان الاقتصاد والسياسة

حين تصدر إشارة بهذا الوضوح من واشنطن – صاحبة التأثير الأبرز داخل المؤسسات المالية الدولية وفي طليعتها صندوق النقد الدولي – بأن اللجوء إلى الصندوق ليس ضرورة، بل خيار من بين عدة احتمالات، فإن هذا يفتح الباب أمام مراجعة جدية للسردية السائدة في لبنان حول “حتمية” اللجوء إلى صندوق النقد كطريق وحيد للخروج من الأزمة.

في التحليل الاقتصادي، ما قالته أورتاغوس يُفهم على أنه دعوة إلى تغيير النموذج، لا إلى ترقيعه عبر المزيد من القروض. فهي لا ترفض الدعم الدولي، لكنها تدفع نحو بيئة استثمارية سليمة تُغني عن الديون المشروطة، وتُعيد بناء الاقتصاد من أسسه لا من واجهته. وهذه المقاربة، إذا ما نُظر إليها من زاوية الاقتصاد الكلي، توحي بأنّ ما يحتاجه لبنان ليس تمويلاً بقدر ما يحتاج إلى ثقة – ثقة محلية ودولية – لا تأتي إلا بإصلاحات جذرية وحوكمة شفافة.

لكن ما يدعو للتساؤل هو: إذا كانت أميركا، بما تمثله من سلطة مالية عالمية، لا ترى صندوق النقد ضرورة مطلقة، فلماذا لا يزال كثير من اللبنانيين، سياسيين واقتصاديين، يصرون على اعتباره الحل الأوحد؟ هل يعود ذلك إلى غياب الرؤية الاقتصادية البديلة؟ أم إلى رغبة خفية في تحميل الصندوق مسؤولية الإجراءات الصعبة بدلاً من تحمّلها محليًا؟

التمسك بهذا الخيار الوحيد، رغم ما يحمله من شروط قاسية وتجارب مؤلمة في بلدان أخرى، قد يعكس في جزء منه ارتباكاً على مستوى القيادة الاقتصادية، أو ربما رغبة في تجنّب اتخاذ قرارات موجعة تفتقر إلى الغطاء السياسي. وفي الحالتين، تصبح “الحاجة” إلى الصندوق أكثر سياسية منها اقتصادية.

2. الإصلاحات البنيوية: استعادة الثقة لا تقل أهمية عن التمويل

من بين النقاط التي شددت عليها أورتاغوس خلال حديثها، برزت الحاجة الملحّة لإصلاح القطاع المصرفي، ليس كمسألة فنية فقط، بل كشرط أساسي لإعادة التوازن إلى الاقتصاد اللبناني. فبعد الانهيار الذي ضرب هذا القطاع، لم يعد بالإمكان المضيّ في نموذج اقتصادي قائم على التداول النقدي فقط، وهو ما يجعل لبنان عرضة لمخاطر متعددة، من تبييض الأموال إلى تفشي الفساد، مرورًا بتعزيز اقتصاد الظل وغياب الرقابة.

هذه الإشارات ليست جديدة، لكنها تكتسب أهمية خاصة حين تأتي في هذا التوقيت، وتُربط بشكل مباشر بأمن البلد واستقراره المالي. واللافت أن أورتاغوس لم تكتفِ بالإشارة إلى العناوين العامة، بل تطرقت إلى حزمة قوانين أساسية يفترض أن تُستكمل، مثل قانون ضبط الفجوة المالية، وقانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وهي خطوات من شأنها – بحسب رأيها – إعادة بناء الثقة التي فُقدت.

في العمق، يبدو أن الحديث عن إصلاح القطاع المصرفي يتجاوز البعد الاقتصادي الضيق. فالمصارف، لا تزال في قلب النقاش حول مستقبل النموذج الاقتصادي اللبناني. وربما من المفيد التذكير هنا أن أي خطة إنقاذ شاملة، محلية كانت أم خارجية، لن تستقيم من دون جهاز مصرفي فعّال قادر على استعادة ثقة المودعين وتسهيل النشاط الاقتصادي الرسمي.

3. سلاح حزب الله: معضلة تتجاوز الأمن

لم تغب المسألة الأمنية عن مداخلة أورتاغوس، إذ تطرقت بشكل واضح إلى قضية سلاح حزب الله، معتبرة إياها من أبرز التحديات التي لا تزال تعيق مسار الاستقرار في لبنان. فرغم الإشارات إلى بعض التقدّم الذي تحقق خلال الأشهر الماضية، إلا أن المبعوثة الأميركية شددت على أن المسار لا يزال طويلاً، وأن المطلوب – بحسب الموقف الأميركي – هو نزع السلاح بالكامل، ليس فقط في الجنوب، بل على امتداد الأراضي اللبنانية.

هذا الطرح يعيد طرح مسألة التوازن الداخلي في لبنان، ومدى قدرة الدولة على احتكار القرار الأمني والسيادي ضمن حدودها. فالسلاح الخارج عن المؤسسات الرسمية لا يشكل فقط تهديدًا أمنيًا بحتًا، بل يترك انعكاسات مباشرة على الاقتصاد، صورة الدولة، وعلاقاتها مع الخارج.

من هذه الزاوية، يصبح نزع السلاح – وفق ما جاء في الطرح الأميركي – ليس مسألة سياسية أو إيديولوجية فقط، بل شرطًا لاستعادة الثقة الدولية بلبنان، وضرورة لتوفير بيئة آمنة للاستثمار والتنمية.

وفي هذا السياق، يمكن فهم دعوة أورتاغوس للقيادة اللبنانية لاتخاذ “قرارات حاسمة” ليس فقط على أنها ضغط سياسي، بل كجزء من نظرة شاملة تعتبر أن الإصلاح الاقتصادي والسياسي لا يمكن فصله عن إعادة رسم قواعد السيادة الوطنية.

4. الاستثمار لا الاستدانة: رافعة ممكنة للتعافي

من النقاط التي بدت محورية في خطاب أورتاغوس دعوتها إلى مقاربة بديلة تقوم على تشجيع الاستثمار بدل التوسع في الاقتراض. فبدل أن يُثقل لبنان كاهله بالمزيد من الديون، رأت أن البلاد تمتلك مقومات تؤهّلها لأن تكون بيئة جاذبة لرؤوس الأموال، إذا توفرت الشروط اللازمة من استقرار، إصلاحات، وثقة بالمؤسسات.

الطرح في جوهره لا يقدّم وصفة سحرية، لكنه يعيد توجيه البوصلة نحو خيار قد يكون أكثر استدامة. فالدين، كما هو معلوم، يأتي غالبًا مشروطًا ومقيدًا، بينما الاستثمار يتطلب بيئة آمنة ومنفتحة، لكنه في المقابل يحمل قيمة مضافة حقيقية: من خلق فرص عمل، إلى تحريك عجلة الاقتصاد، وصولًا إلى استعادة الثقة المحلية والدولية.

وقد يفهم من هذا الطرح أن الانفتاح على الاستثمار ليس مسألة اقتصادية بحتة، بل مشروع سياسي واجتماعي يتطلب تغييرًا في نمط الإدارة والحوكمة. فالمستثمر لا يأتي بدافع المساعدة، بل بدافع الثقة والجدوى، وهذان عنصران لا يمكن توفيرهما من دون بيئة قانونية واضحة، نظام مصرفي مستقر، ومؤسسات تعمل بكفاءة وشفافية.

وإذا كانت أبواب الدعم المالي التقليدي لا تزال مفتوحة نظريًا، فإنّ الخيار الاستثماري، كما لمّحت أورتاغوس، قد يوفر للبنان هامشًا أكبر من الحرية والسيادة في رسم مسار تعافيه، بعيدًا عن ثقل الشروط الخارجية وقيود الإملاءات المالية.

ما طرحته مورغان أورتاغوس في منتدى قطر الاقتصادي لا يمكن اعتباره مجرد مداخلة سياسية عابرة، بل هو أقرب إلى قراءة أميركية لمعادلة الإنقاذ الممكنة في لبنان، تقوم على ثلاثة أركان: إصلاح حقيقي، استثمار منتج، واستعادة للدور المؤسسي، لا سيما في القطاع المصرفي والدولة ككل. وقد يكون لافتًا أن تأتي هذه المقاربة من جهة تمثل الدولة الأكثر نفوذًا في المنظومة المالية العالمية، والتي يفترض أنها من أشد الداعمين لصندوق النقد الدولي، ثم تؤكد أن اللجوء إليه ليس حتميًا.

الطرح يُلمّح إلى أنّ الحلول قد لا تكون خارجية فحسب، بل تبدأ من الداخل: من الجرأة على اتخاذ قرارات جذرية، إلى إعادة هيكلة النظام المالي، وتقديم نموذج أكثر اتزانًا يحفّز الثقة بدل أن يستجدي التمويل. في المقابل، لا يمكن تجاهل العقبات البنيوية، من سلاح خارج إطار الدولة، إلى غياب رؤية اقتصادية واضحة، ما يجعل أي محاولة للإقلاع محفوفة بتحديات تتجاوز الأرقام والبرامج.

في ظل هذا الواقع، قد يكون السؤال المطروح اليوم ليس: “هل نذهب إلى صندوق النقد؟”، بل: “هل نملك ما يكفي من الإرادة والقدرة لخلق نموذج اقتصادي مستقل ومستدام؟”

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us