قانونا الإيجارات وتعويضات الأساتذة في مهب التجاذب الدستوري: من يعوّض على المتضررين؟

ما يحصل ليس مجرد خلل إجرائي، بل يكشف هشاشة المنظومة التشريعية في لبنان وغياب آليات رقابة فعالة بعد إقرار القوانين والفوضى في العلاقة بين السلطات الدستورية، وفي نهاية المطاف يدفع المواطن الثمن، سواء كان أستاذاً أنهكه التقاعد أو آخر ينتظر تعويض نهاية الخدمة بعد ٤٠ سنة في التعليم، أو مالكاً أنهكته الإيجارات التجارية المجمّدة
كتبت ناديا الحلاق لـ”هنا لبنان”:
يشهد لبنان اليوم واحدة من أكثر الإشكاليات القانونية غرابة وتعقيداً في تاريخه التشريعي الحديث، بعد صدور قرارين عن المجلس الدستوري قضيا بـ”عدم نفاذ” قانونَي تمويل صندوق تعويضات المعلمين وقانون الإيجارات للأماكن غير السكنية، دون إبطالهما أو تأكيد دستوريتهما، وذلك بسبب “عيب في النشر”، وهو تفصيل شكلي لكنه جوهري في نفاذ القوانين، ما فتح الباب أمام جدل واسع في الأوساط القانونية والتربوية والاقتصادية حول مصير هذين القانونين، والفراغ التشريعي الذي خلّفه هذا الواقع.
أزمة شكل أم مضمون؟
يوضح المجلس الدستوري في قراره أنّ سبب “عدم النفاذ” لا يعود إلى عدم دستورية المواد أو مخالفتها لأحكام الدستور، بل إلى غياب شرط أساسي في عملية تشريع القوانين، وهو النشر في الجريدة الرسمية وفق الآلية الصحيحة.
هذا التفصيل القانوني، الذي بدا شكلياً في ظاهره، كانت له تداعيات كارثية على الأرض: قانونان أُقرّا وفق الأصول في مجلس النواب، منذ أكثر من سنة ونصف، ولا يزالان حتى اليوم غير معمول بهما، ما يعني ببساطة أن المواطنين المعنيين بالقانونين، من معلمين ومالكين، لم يستفيدوا بشيء من “التشريع” الذي وُعدوا به.
المعلمون: حقوق مؤجلة ومصير ضبابي
نقيب المعلمين نعمه محفوض عبّر عن امتعاضه من هذا الواقع القانوني المشوّش، مؤكداً لموقع “هنا لبنان” أنّ النقابة تتابع اتصالاتها مع الجهات الرسمية لإعادة نشر قانون تمويل صندوق التعويضات، لما له من أثر مباشر على تحسين رواتب الأساتذة المتقاعدين وتعويضات المعلمين في الخدمة. بالنسبة له، فإنّ القانون لم يُطعن في جوهره، ولا في روحه أو مقاصده، بل جُمد فقط لأنه لم يُنشر وفق الإجراءات الصحيحة، وهو ما يضع البلد أمام “مشكلة دستورية أخلاقية” تضرب الثقة في جدوى التشريع وجدّية الدولة في تطبيق القوانين.
محفوض اعتبر أن الخلل يجب أن يكون فرصة لمراجعة شاملة في آلية التشريع، وخصوصاً في مرحلة ما بعد الإقرار، متسائلاً: كيف لقانون أن يصدر من مجلس النواب ويعلق تنفيذه بسبب خلل في النشر؟ وأين تقع المسؤولية؟ في مجلس النواب؟ في رئاسة الحكومة؟
المالكون: معاناة قديمة وتفاقم جديد
أما المالكون القدامى، فقصتهم مع القانون لم تبدأ اليوم. رئيس نقابة المالكين باتريك رزق الله يرى أن قانون الإيجارات للأماكن غير السكنية أُقرّ لتصحيح ظلم تاريخي تعرض له المالكون، وخصوصاً مَن لا يزالون يتقاضون إيجارات قديمة تصل إلى دولار واحد شهرياً عن محلات تجارية في قلب بيروت وغيرها. القانون بحسب رزق الله يُعيد التوازن إلى العلاقة بين المالك والمستأجر، وهو ضروري لعدالة اجتماعية واقتصادية طال انتظارها. لكن القرار الصادر عن المجلس الدستوري، وإن أكد عدم وجود مخالفة دستورية في نصوص القانون، جمّد مفاعيله بسبب تأخّر النشر، ما اعتبره رزق الله “عرقلة دستورية لا تقل ضرراً عن التعطيل السياسي”، بخاصة أن القانون أُقرّ في الجلسة نفسها التي أقر فيها 11 قانوناً آخر نُشرت وأصبحت نافذة، بينما بقي هو معلقاً، من دون تفسير مقنع.
ويبقى السؤال الجوهري: ما هو مصير القانونين؟ هل تعود الأمور إلى نقطة الصفر؟ وهل ينبغي إعادة طرح القانونين مجدداً في مجلس النواب، أم الاكتفاء بإعادة النشر وفق الأصول؟
جميع الخبراء الدستوريين يرون أن “عدم النفاذ” لا يعني البطلان، بل فقط التعليق، وبالتالي يمكن إعادة تفعيل القانون عبر إقراره ثم نشره وفق الأصول القانونية.
أما المحاكم، فستواجه تحدياً كبيراً في تفسير ما إذا كان يمكن الاستناد إلى القانونين المجمّدين في أي نزاع قضائي. هل يُعمل بهما؟ أم يُعتبران كأنهما لم يُقرا؟ وماذا عن القرارات القضائية السابقة التي ربما استندت إليهما؟ وماذا عن التعويضات التي كان يمكن أن تُصرف للأساتذة أو الزيادات التي كانت ستُفرض على الإيجارات التجارية؟
ما يحصل ليس مجرد خلل إجرائي. إنه يكشف عن هشاشة المنظومة التشريعية في لبنان، وعن غياب آليات رقابة فعالة بعد إقرار القوانين، وعن فوضى في العلاقة بين السلطات الدستورية.
في نهاية المطاف، يدفع المواطن الثمن، سواء كان أستاذاً أنهكه التقاعد أو آخر ينتظر تعويض نهاية الخدمة بعد ٤٠ سنة في التعليم، أو مالكاً أنهكته الإيجارات التجارية المجمّدة.
فهل سيبادر مجلس النواب إلى تصحيح المسار؟ وهل ستتحرك رئاسة الجمهورية؟ وهل ستتحرك أيضًا رئاسة الحكومة لإعادة النشر الفوري؟ أم أن القانونين سيلحقان بقائمة طويلة من النصوص التي ضاعت بين السياسة والدستور، تاركة الناس في العراء، بلا ضمانات؟