القطاع السياحي في لبنان: عماد الصمود وصورة الوطن… فهل يُكافأ بالتشكيك؟

في زمن عزّ فيه الأمل، كانت السياحة واحدة من آخر النوافذ التي تطل منها الحياة على لبنان. وعلى الدولة اليوم أن تدعم هذه النوافذ لا أن تُغلقها بتعميمات وتشكيك. فكرامة هذه المؤسسات هي من كرامة الوطن، وصورتها في الخارج هي مرآتنا جميعاً.
كتب أنطوان سعادة لـ”هنا لبنان”:
في بلد اعتاد السير على الحافة، ظل القطاع السياحي لعقود بيضة القبان في ميزان الاقتصاد اللبناني. لا نبالغ إن قلنا إنه كان، ولا يزال، أحد أبرز الوجوه المشرقة لهذا الوطن، ليس فقط في أعياده ومواسمه، بل حتى في أسوأ ظروفه: من الحرب الأهلية إلى الاجتياحات، فالأزمات الاقتصادية والانهيارات المتتالية. وفي كل مرة، كان السياحيون أول من يفتح أبوابه وآخر من يغلقها، مدفوعين ليس بدعم الدولة بل بحب الوطن والالتزام الأخلاقي تجاه صورته.
اليوم، وفي خضم محاولات إعادة تنشيط هذا القطاع، أرسلت وزيرة السياحة السيدة لورا الخازن لحود تعهّدًا إلى النقابات والهيئات الاقتصادية والمؤسسات السياحية تطلب فيه التزامًا علنيًا بمبادئ الشفافية، وعدم التمييز في التسعير، والاحترافية، والتعاون مع الدولة، وتعزيز السياحة المستدامة، معتبرة أنّ هذا التعهد هو “وثيقة شرف ومسؤولية”.
ردّ النقابات: كرامتنا ليست محلّ شبهة
ردّت النقابات والمؤسسات المعنية بأسف عميق، معتبرة أنّ مضمون الكتاب يضعها في موضع الاتهام المسبق، وكأنها تمارس الغش والتلاعب والتمييز، وهي التي صمدت رغم كل التحديات، وقدّمت للبنان أكثر مما قدّمته الدولة نفسها. كيف يُطلب من قطاعات ناضلت، ورفعت اسم لبنان عاليًا في الخارج، وواجهت ظروفًا مستحيلة، أن توقّع على “تعهد أخلاقي” يساوي بين المؤسسات والأفراد الذين يمارسون سلوكيات غير مقبولة وغير شرعية، وبين مؤسسات شرعية لطالما كانت رافعةً للبنان واقتصاده وصورته؟
إنّ من الظلم أن يُختزل تاريخ طويل من التضحيات والمهنية العالية في وثيقة تطلب من الجميع تبرئة ذممهم، في حين أنّ الدولة نفسها لم تُبرّئ ذمتها من التخلي والإهمال والفساد. نعم، قد تكون هناك حالات شاذة، لكنها لا تبرّر تعميم الاتهام على قطاع كامل.
وفي هذا السياق، طالبت النقابات السياحية بأن تكون وثيقة الشرف التي تُطلب منها وثيقة شرف متبادلة، تلتزم فيها الدولة بتوفير البيئة المناسبة لإنصاف القطاع، من خلال:
• تطبيق القانون بشكل عادل وشفاف، دون استنسابية أو محاباة.
• ترسيخ حكم الدولة وهيبتها، بما يضمن حقوق المواطنين والمقيمين والزوار على حد سواء.
• تحقيق الاستقرار الأمني، الذي يُعدّ الأساس لاستعادة الثقة وجذب السياح، ويُعتبر ضمانة أساسية لسلامتهم وراحتهم.
• تعاون وثيق وشفاف بين القطاعين العام والخاص، بما يساهم في التقدم على المسار الإصلاحي وتحقيق التنمية المستدامة.
إنّ هذه المطالب ليست ترفًا، بل ضرورة حتمية لضمان استمرارية القطاع السياحي، الذي لطالما كان مصدر فخر للبنان ومصدرًا للعملات الصعبة والفرص الاقتصادية.
نية الوزيرة: خطة متكاملة وصورة موحدة
لكن، ومن باب الموضوعية، لا بد من الإشارة إلى ما عبّرت عنه الوزيرة في حديث سابق مع “هنا لبنان”، حيث أوضحت أنّ هذه الخطوة تأتي ضمن خطة متكاملة تعمل عليها بالتعاون مع وزارات أخرى، لا سيما الداخلية، من أجل تحسين واجهة لبنان السياحية بدءًا من المطار، مرورًا بمختلف المرافق والخدمات، وصولًا إلى مغادرة الزائر بصورة إيجابية تعزز رغبته بالعودة.
وقد شدّدت الوزيرة على أنّ الاستقرار الأمني يشكّل حجر الزاوية في هذه الخطة، وهو الأساس لضمان سلامة السياح وراحتهم، ما ينعكس مباشرة على سمعة لبنان السياحية ويزيد من جاذبيته كوجهة آمنة ومضيافة. فالاستثمار في السياحة يبدأ من ضمان الأمان، وهو ما تعمل عليه الوزارة بالشراكة مع المعنيين.
فيبدو أن الهدف من هذا التعهد ليس الإدانة، بل تحقيق توازن يحمي السائح ويحفظ سمعة لبنان، خصوصاً في ظل غياب فعلي لأجهزة الرقابة على الأسعار والممارسات. ومن ضمن خطتها أيضًا، تغيير الصور الدعائية ذات الطابع السياسي التي تملأ الطرقات، واستبدالها بصور تبرز الجمال الطبيعي والثقافي للبنان، وهو ما ينسجم مع رؤيتها لتعزيز الجاذبية السياحية للبلاد.
ما الذي تحتاجه السياحة حقًا؟
إنّ القطاع السياحي لا يطلب دعماً مالياً ولا إعفاءات ضريبية (رغم أنّ ذلك حق)، بل يطلب شيئاً واحداً: الاستقرار الأمني والاقتصادي، وبيئة تنافسية عادلة، بعيداً عن السوق السوداء والتهريب والتمييز. هؤلاء المهنيون يريدون فقط أن يعملوا، أن يقدموا أفضل ما لديهم، كما فعلوا دائمًا.
وإذا كان من واجب الدولة أن تراقب وتحاسب، فليكن ذلك من خلال آليات قانونية واضحة، لا عبر تعهدات عامة تُلقي ظلال الشك على القطاع بأكمله. فالأخلاقيات لا تُفرض بتوقيع، بل تُثبت بالفعل، وقطاع السياحة أثبتها مرارًا.
في زمن عزّ فيه الأمل، كانت السياحة واحدة من آخر النوافذ التي تطل منها الحياة على لبنان. وعلى الدولة اليوم أن تدعم هذه النوافذ لا أن تُغلقها بتعميمات وتشكيك. فكرامة هذه المؤسسات هي من كرامة الوطن، وصورتها في الخارج هي مرآتنا جميعاً.