لبنان على طريق التحوّل الرقمي

إنّ التحوّل الرّقمي في لبنان يجب أن يُقارب كخيارٍ سياديّ – تمامًا كما الدفاع أو السياسة النقدية – لا كملفٍ تقنيّ أو مشروعٍ مموّلٍ من الجهات المانحة. فالمواطن اليوم يعيش فقدانًا شبه كامل للثقة بالمؤسّسات العامة، والخروج من هذا المأزق لا يكون إلا بإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والناس، على قاعدة الكفاءة والعدالة والشفافيّة.
كتب جو أندره رحال لـ”هنا لبنان”:
في زمنٍ تتسابق فيه الدول نحو الرّقمنة الشاملة، باتت الحكومة الذّكية أكثر من مجرّد ترفٍ تقنيّ، بل أصبحت أداةً سياديةً لتحسين الأداء العام، وتحقيق الشفافية، ومحاربة الفساد. تعتمد الحكومة الذّكية على الدمج المُتكامل بين تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وإدارة الدولة، بحيث تُقدّم الخِدمات العامة للمواطنين والمؤسّسات بكفاءة، في الوقت الفعلي، وبأقلّ قدرٍ ممكنٍ من التكاليف والتدخّلات البشرية. لا تقتصر هذه الفلسفة الإدارية على ميكنة الخدمات، بل تشمل إدارة البيانات، وتوظيف الذّكاء الاصطناعي، وتطوير نماذج تشاركية تُتيح للمواطنين التأثير في القرار العام، وصولًا إلى ما يُعرف بالحكم التشاركي الرقمي.
في هذا السياق، أطلق لبنان عام 2020 استراتيجيته الوطنية للتحول الرّقمي 2020–2030، بإشراف مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية (OMSAR)، وذلك بدعمٍ من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي. ارتكزت الاستراتيجية إلى سبعة محاور رئيسية، أبرزها تعزيز الشفافية، تطوير الهوية الرّقمية، وتحسين جودة الخدمات الحكومية. كما جرى إطلاق منصّة “IMPACT” خلال جائحة كورونا لإدارة تصاريح التنقل، مما شكّل تجربةً أوليةً ناجحةً في جمع البيانات وتحليلها، على الرَّغم من محدوديّة التوسّع والاستمرارية بعد انتهاء الأزمة الصحية.
غير أن هذه المبادرات، على أهمّيتها، بقيت محدودة التأثير، وغالبًا ما يتمّ توظيفها كاستجابةٍ ظرفيةٍ لا كرؤيةٍ مستدامةٍ. فلبنان يواجه بيئةً غير مواتية على مستوياتٍ عدّة: بنية تحتية ضعيفة، انقسام سياسي، غياب التنسيق بين الإدارات، ومقاومة إدارية للتغيير الرقمي. فعلى سبيل المثال، لا تزال غالبية المعاملات الرسمية تتمّ ورقيًا، وتفتقر معظم الوزارات إلى أنظمة إدارة معلومات متكاملة، بينما تفتقر الدولة إلى سجلٍ وطنيّ موحّد يُتيح تتبّع المعاملات والملفات بشكلٍ شفّاف وعابرٍ للوزارات.
التحدّيات لا تقف هنا. فضعف التشريعات المتعلّقة بحماية البيانات الشخصية، وغياب قانون فعّال للمُعاملات الإلكترونية، يشكّلان عائقًا مباشرًا أمام تطوير الثقة الرقمية. وعلى الرَّغم من إقرار قانون “المعاملات الإلكترونية والبيانات ذات الطابع الشخصي” عام 2018، إلّا أنّ تنفيذه لا يزال جزئيًا ومحدودًا، من دون وجود سلطة مستقلّة للرّقابة على حماية البيانات.
على المستوى الإقليمي، تبرز تجارب ناجحة مثل إستونيا، التي تُعدّ نموذجًا عالميًا في بناء حكومةٍ رقميةٍ شاملةٍ، أو الإمارات العربية المتحدة، التي أطلقت منصّاتٍ متكاملةً مثل “تمّ” و”مسرعات دبي للمستقبل”، وأدخلت الذّكاء الاصطناعي في صلب الخدمات العامة. في المقابل، تُسجَّل خطواتٍ لافتةً في دول مثل الأردن وتونس، على الرَّغم من ضعف مواردهما، ممّا يعكس أنّ الإرادة السياسية هي العامل الحاسم أكثر من حجم التمويل أو الظروف الاقتصادية.
في لبنان، يُمكن البناء على المبادرات الجزئية التي ظهرت مؤخرًا، مثل مشروع السجل العقاري الرّقمي، أو رقمنة الموازنات البلدية، التي طُبّقت بالتعاون مع التفتيش المركزي عبر منصّة “IMPACT”. كذلك، فإنّ مشروع الهوية الرقمية الوطنية الذي أعلن عنه مؤخرًا وزير الدولة لشؤون التحول الرّقمي في حكومة تصريف الأعمال، يشكّل نقطة انطلاقٍ واعدةٍ إنْ تمّ ربطها بخدمة “نافذة المواطن” الموحّدة، التي تسمح بإجراء كل المعاملات الإدارية إلكترونيًا من مكان واحد.
لكنّ الأهم من ذلك هو ربط التحوّل الرّقمي بملف محاربة الفساد. فالحكومة الذّكية ليست فقط وسيلةً لتسهيل الخدمات، بل أداةً فعّالةً لكشف الاختلالات في الإنفاق العام، وتعقّب سلاسل التوريد والعقود العمومية، وتمكين الهيئات الرقابية من رصد التجاوزات في الوقت الحقيقي. ويكفي النظر إلى أنظمة المشتريات الإلكترونية المُعتمدة في بعض الدول، حيث تُتيح للجهات الرقابية والمواطنين متابعة كل مناقصة بشكلٍ شفافٍ، ما يحدّ من المحسوبيات والتلاعب.
إنّ التحوّل الرّقمي في لبنان يجب أن يُقارب كخيارٍ سياديّ – تمامًا كما الدفاع أو السياسة النقدية – لا كملفٍ تقنيّ أو مشروعٍ مموّلٍ من الجهات المانحة. فالمواطن اليوم يعيش فقدانًا شبه كامل للثقة بالمؤسّسات العامة، والخروج من هذا المأزق لا يكون إلا بإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والناس، على قاعدة الكفاءة والعدالة والشفافيّة.
لكي ينجح لبنان في بناء حكومةٍ ذكيةٍ حقيقيةٍ، عليه أوّلًا أن يعترف بأنّ النماذج القديمة لم تعد صالحةً. عليه أن يُنهي ازدواجية المعايير، ويمنح الأولوية للبيانات، لا للمحسوبيّات. أن يدير الموارد، لا الأزمات. فالحكومة الذّكية ليست مجرّد مشروعٍ تنمويّ، بل رهان على بقاء الدولة نفسها. التأخير في هذا المجال ليس فقط خسارة فرص، بل تمديد للفوضى الإدارية والفساد المقوْنن. وعلى صانعي القرار أن يسألوا أنفسهم: هل نريد فعلًا إصلاح الدولة؟ أم نُبقيها معلّقةً بين ملفاتٍ ورقيةٍ وغرفٍ مظلمةٍ؟.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() اتحاد البلديات في لبنان حجر الزاوية الغائب عن التنمية | ![]() الأرض بتحكي… والزراعة رجعت تحرّك الاقتصاد | ![]() رصاصةٌ بلا اسم… وضحيةٌ بلا ذنب! |