من مِعوَل المزارع إلى جَيْب العسكري… هل بات الانفجار الاجتماعي وشيكًا؟

لم يتعافَ اللّبنانيّون بعد من آثار الأزمة الاقتصاديّة الطّاحنة المستفحلة منذ العام 2019، وما خلّفته من غلاءٍ فاحشٍ وتآكل قيمة الرّواتب والقدرة الشّرائيّة، في ظلّ غياب إصلاحاتٍ هيكليّةٍ حقيقيّةٍ وسياساتٍ اقتصاديّةٍ فاعلةٍ كفيلةٍ بوضع لبنان وشعبه على سكّة التّعافي. فهل كانت هذه الضّريبة على المحروقات ضروريّةً لتمويل مِنح العسكريّين؟ وهل ستكون تحرّكات العمّال والمزارعين المرتقبة، الشّرارة لانفجارٍ اجتماعيٍّ وشيك؟
كتب إيلي صروّف لـ”هنا لبنان”:
عشيّة إطفاء حكومة “الإصلاح والإنقاذ” شمعة المئة يومٍ على كسب ثقة مجلس النّواب، رَسبت في امتحانها الأخير أن تكون اسمًا على مُسمّى. إذ استَنسخت نمط تصرّفات سالفاتها الفاشلة، ولجأت إلى الخيار الأسرع والأسهل لتأمين الإيرادات المطلوبة لخزينة الدّولة، وهو جيبة المواطن “المنَفّضة”، فخسرت بذلك فرصةً جديدةً لكسب ثقتهم المشروطة.
ففي خطوةٍ مفاجئةٍ وملتبسةٍ، اتخذ مجلس الوزراء في جلسته بتاريخ 29 أيّار الحالي، قرارًا بإعادة أسعار المحروقات السّائلة إلى ما كانت عليه عند تشكيل الحكومة في 8 شباط 2025، أي قبل انخفاضها بشكلٍ ملحوظٍ متأثّرةً بعدّة عوامل اقتصاديّةٍ وجيوسياسيّةٍ، أبرزها ارتفاع التوتّرات بين الولايات المتّحدة والصّين، زيادة مخزونات الوقود الأميركيّة؛ واستمرار الحرب في أوكرانيا.
ومساء اليوم نفسه، أصدرت المديريّة العامّة للنّفط التّابعة لوزارة الطّاقة والمياه، جدولًا جديدًا لأسعار المحروقات، لَحظ ارتفاع سعر صفيحة البنزين بنسبة 7% (100 ألف ليرة)، وصفيحة المازوت بنحو 14% (174 ألف ليرة)، ما سينعكس ارتفاعًا متفاوتًا بأسعار المواد الغذائيّة والمنتجات الزّراعيّة والصّناعيّة والاستهلاكيّة، أكلاف النّقل، فواتير المولّدات الكهربائيّة الخاصّة… نتيجة دخول مادّتَي الوقود والمازوت في صلب العديد من القطاعات الأساسيّة، الّتي تتأثّر مباشرةً بـ”يويو” الأسعار.
أمّا الحِجّة المباشرة الّتي قُدّمت لاستمرار مسلسل نهش القدرة الشّرائيّة للمواطنين، فكانت تأمين التّمويل لبعض المطالب الاجتماعيّة المُلحّة، على غرار إعطاء منحٍ ماليّةٍ للعسكريّين في الخدمة الفعليّة بقيمة 14 مليون ليرة لبنانيّة، وللمتقاعدين بقيمة 12 مليون ليرة، الّتي أقرّتها الحكومة في الجلسة نفسها. هذا يعني بطريقةٍ أبسط، أنّ المواطنين سيُموّلون سياسات الحكومة، والمِنح الّتي قرّرت إعطاءها للأسلاك العسكريّة والأمنيّة، دون سواها!
وبغضّ النّظر عن مدى أحقيّة هذه المِنح، لا بل الحاجة إلى إعادة تقييمٍ شاملٍ لمجمل رواتب العاملين في القطاع العام والعسكريّين، إلّا أنّ ذلك لا يبرّر لجوء مجلس الوزراء إلى فرض ضريبةٍ مقنّعةٍ على المحروقات، ولا التّقاعس عن اعتماد رؤيةٍ اقتصاديّةٍ واضحةٍ، تؤمّن مصادر تمويلٍ أكثر عدالةٍ واستدامةٍ، تبدأ بمحاربة الفساد وترشيد الإنفاق وضبط مزاريب الهدر، ولا تنتهي بتحسين الجباية وإدارة أملاك الدّولة بطريقةٍ شفّافةٍ وفعّالة… وبالتّأكيد لا يبرّر إرهاق كاهل المواطنين والقطاعات الإنتاجيّة، ومنها بينها القطاع الزّراعي، بسياساتٍ ترقيعيّة.
في هذا الإطار، يشير رئيس تجمّع مزارعي وفلّاحي البقاع ابراهيم ترشيشي، في حديث لـ”هنا لبنان”، إلى “أنّنا تفاجأنا بالضّريبة الّتي فُرضت على صفيحة المازوت، من قِبل المسؤولين الّذين كنّا نعتبر أنّهم يقفون إلى جانبنا. فبدل مساعدتنا وإنقاذ القطاع الّذي يعاني أساسًا من العديد من المشاكل مثل الجفاف وشحّ الأمطار، الكساد وصعوبة تصدير الإنتاج، التّهريب من لبنان وإليه، وغلاء المستلزمات الزّراعيّة… تمّ فرض هذه الضّريبة المجحفة”.
ويوضح أنّ “مادّة المازوت تُعتبر الشّريان الّذي يضخّ الدّمّ في الحياة الزّراعيّة، وهي تدخل في معظم تحرّكات المزارع في أرضه، إذ يتمّ استخدامها في نقل المزارعين والعمّال والمنتوجات الزّراعيّة، الاستحصال على المياه للرّيّ بواسطة المولّدات الكهربائيّة، والفلاحة والحصاد”.
ويؤكّد ترشيشي أنّه “مع ارتفاع أسعار المحروقات والخسائر الّتي يتكبّدها المزارعون المنهَكون، ستتقلّص المساحات المزروعة ومعها الكميّات المنتَجة، وسترتفع كلفة الإنتاج، ما سيرفع أيضًا أسعار المنتجات الزّراعيّة. كما أنّ هذه الأخيرة لن تتمكّن من منافسة مثيلاتها في الدّول المجاورة الّتي تكون أقل ثمنًا، ما سيؤدّي إلى تراجع الصّادرات والقدرة التّنافسيّة في الأسواق الدّاخليّة والخارجيّة، وزيادة التّهريب”.
القرار المذكور الّذي يَظهر وكأنّه أُسقط على مقرّرات جلسة الحكومة، لاقى موجة اعتراضاتٍ واسعة. فمن جهة أعلن نوّاب تكتّل “الجمهوريّة القويّة” أنّهم سيلجأون إلى مجلس شورى الدّولة للطّعن بهذا القرار بِغرض إبطاله، فيما شدّد عضو كتلة “الوفاء للمقاومة” النّائب علي فضل الله على أنّ الزّيادة بأسعار المحروقات مرفوضة، وأنّ “معالجة ماليّة الدّولة لا تتمّ على حساب المواطنين”. كما كشف وزير الصّناعة جو عيسى الخوري “أنّه اجتمع مع رئيس مجلس الوزراء نواف سلام، وبحث معه في ضرورة استثناء القطاع الصّناعي من الرّسوم الجديدة على المازوت”، فيما أعلن رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر أنّ الأسبوع المقبل على موعد مع تحرّكاتٍ عماليّةٍ ونقابيّةٍ، رفضًا لقرار زيادة الرّسوم على المحروقات.
موجةُ الاعتراضات والتحرّكات والخطوات التّصعيديّة تشمل أيضًا القطاع الزّراعي، إذ يلفت ترشيشي إلى أنّ “قرار الحكومة بفرض ضريبةٍ على المحروقات غير قانوني، ونحن بصدد تقديم طعنٍ إلى مجلس شورى الدّولة، بالتّعاون مع الصّناعيّين والهيئات الاقتصاديّة. كما أنّنا سنقوم بمراجعة مختلف المسؤولين والمعنيّين بهذا القرار، وقد بدأنا جولتنا بزيارة وزيرَي الزّراعة والصّناعة، اللّذين وَعدانا خيرًا. لكن إذا لم نصل إلى النّتيجة المرجوّة، فسنُعلن مرغَمين إضرابًا شاملًا، رغم عدم تفضيلنا لهذا الخيار”.
لم يتعافَ اللّبنانيّون بعد من آثار الأزمة الاقتصاديّة الطّاحنة المستفحلة منذ العام 2019، وما خلّفته من غلاءٍ فاحشٍ وتآكل قيمة الرّواتب والقدرة الشّرائيّة، في ظلّ غياب إصلاحاتٍ هيكليّةٍ حقيقيّةٍ وسياساتٍ اقتصاديّةٍ فاعلةٍ كفيلةٍ بوضع لبنان وشعبه على سكّة التّعافي. فهل كانت هذه الضّريبة على المحروقات ضروريّةً لتمويل مِنح العسكريّين؟ وهل ستكون تحرّكات العمّال والمزارعين المرتقبة، الشّرارة لانفجارٍ اجتماعيٍّ وشيك؟
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() حماوة زيارات الرئيس عون تكسر جليد العزلة: السّعوديّون في لبنان بعد الأضحى؟ | ![]() قطار المتغيّرات انطلق… فهل سيلحق لبنان بالرَّكب؟ | ![]() تحرير سعر ربطة الخبز… إلى 65 ألف ليرة سِر! |