لبنان بين السلاح الإيراني والسلاح الفلسطيني!


خاص 11 حزيران, 2025

على الرَّغم من الانسحاب الإسرائيلي عام 2000 اختلق النظام السوري مسألة “مزارع شبعا” كمسمار جحا كي يُبقيَ “الحزب” على سلاحه باسم المقاومة ويحافظ على ازدواجية السلطة.

كتب سعد كيوان لـ” هنا لبنان”:

عاش لبنان عقودًا من الفوضى وحكم الميليشيات وانتهاك السيادةِ والخروج على الشرعية. وقد شكّل “اتفاق القاهرة” الذي وُقِّعَ في 3 تشرين الثاني 1969 أوّل تخلي رسمي عن السيادة عبر منح التنظيمات الفلسطينية المسلحة حرية الحركة على الأراضي اللبنانية والقيام بعمليات من الجنوب ضد إسرائيل. ويحاول الحكم الجديد اليوم استعادة السيادة والشرعية عبر خطواتٍ أولها وأهمّها إلغاء ازدواجية السلطة بسحب سلاح “حزب الله”، ومن ثم تسلّم السلاح الفلسطيني المُنتشر خارج وداخل المخيّمات.وطبعًا ليس هذا بالأمر السهل بعد أكثر من نصف قرن من اللّادولة.

ووُقّع هذا الاتفاق بين الحكومة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية التي كان يرأسها زعيم حركة “فتح” ياسر عرفات. وقد كلّف يومها رئيس الجمهورية شارل حلو الذي انتخب في صيف 1964 قائدَ الجيش إميل البستاني ترؤسَ الوفد والتوقيع على الاتفاق بدلًا من أن يرسل وزير الخارجية بالنّيابة عنه. ولماذا لم يوقّع حلو المحسوب على خطّ سلفه الرئيس فؤاد شهاب، الذي طرحه كخليفةٍ له بعد أن رفض التجديد لنفسه على الرغم من أنّه كان لا يزال يحظى بأكثريةٍ نيابيةٍ؟ في النّصف الثاني من فترة حكمه بدأ حلو يتململ من تصاعد نفوذ جهاز ما كان يعرف يومها بـ”المكتب الثاني”، فهل كلّف البستاني الطامح رئاسيًا كي يحدث شرخًا في صفوف الجيش أم أنّ صراعات المحاور العربية بدأت تُترجم على الساحة اللبنانية تمهيدًا للتفجير الداخلي؟ وقد قيل يومها إنّ الزعيم المصري جمال عبد الناصر نفسه استغرب كيف أن لبنان تنازل عن سيادته في “اتفاق القاهرة”!

في المقابل، خلق انطلاق الثورة الفلسطينية دعمًا وضغطًا شعبيًا قويًا على الصعيدَيْن الداخلي والعربي، مع نشوء حركة “فتح” في أوّل عام 1965 تبعها قيام “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” كتنظيم يساري بزعامة جورج حبش عام 1967 وغيرها من التنظيمات، منها التابعة للنظام السوري وأخرى للنظام العراقي. وحصلت أول مواجهة مع إسرائيل في معركة “الكرامة” عام 1968 في غور الأردن، تمكّنت خلالها “فتح” من الصمود وتكبيد إسرائيل لأول مرة خسائر بشرية. عندها، بدأت الريبة تتسلّل إلى النظام الملكي في الأردن تجاه الانتشار الفلسطينيّ المسلح في المملكة، وبدأت المناوشات والاشتباكات مع الجيش الأردني التي مهّدت إلى صدامات ثم إلى مجازر أيلول 1970 ما دفع المنظمات إلى اللجوء إلى لبنان الذي كان قد شهد توزيع الوجود الفلسطيني على اثني عشر مخيمًا في مختلف المناطق اللبنانية وانتشر السلاح داخلها. وتمّ تنظيم أول مظاهرة طلابية شعبية دعمًا للعمل الفدائي الفلسطيني في شهر نيسان 1969 وقع خلالها عدد من الضحايا وأدّت إلى استقالة رئيس الحكومة رشيد كرامي، وعرف لبنان أول أزمة وزارية طويلة دامت سبعة أشهر وكادت أن تتحوّل إلى أزمة حكم مع تهديد رئيس الجمهورية بالاستقالة. وانعكس هذا الخلاف الحادّ على معركة انتخابات الرئاسة في صيف 1970 التي خاضها يومها “الحلف الثلاثي” الناشئ قبل سنتين فقط والمؤلّف من كميل شمعون وبيار الجميل وريمون إده، داعمًا سليمان فرنجية ضدّ المرشح الشهابي إلياس سركيس الذي خسر بفارق صوت واحد.

وجاءت أحداث نيسان 1973 باغتيال إسرائيل ثلاثة قادة فلسطينيين لتزيد من الاحتقان الداخلي والانفلات الأمني ووقوع أوّل صدام عنيف واشتباكات بين الجيش والتنظيمات الفلسطينية، ولم ينفع معه كثيرًا التعاطف العربي بتكليف فرنجية الذهاب إلى الأمم المتحدة متكلّمًا باسم العرب دفاعًا عن القضية الفلسطينية. وأذنت تلك المعركة ببدء تسلح الأحزاب المسيحية أي الكتائب والأحرار بعد اجتماعهما مع فرنجية الذي اعتبر أن لا قدرة للجيش على المواجهة اعترافًا منه بفشل الدولة وتحضيرًا للتصادم مع الفلسطينيين والانزلاق نحو الحرب الأهلية لأنّ قسمًا من اللبنانيين كان يقف إلى جانب الفلسطينيين. ومع اندلاع الحرب عام 1975 شهد لبنان شرخًا عموديًا وانهيارًا شبه كامل للشرعية وانقسمت بيروت إلى شرقية وغربية، واضطرّ رئيس الجمهورية إلى مغادرة القصر الجمهوري واللجوء إلى منزلٍ في كسروان، وأصبح لبنان فريسةً للميليشيات اللبنانية والفلسطينية وتحت رحمة قبضايات وزعران الأحياء.

واستمرّت الحال هكذا على مدى خمس عشرة سنة إلى أن تمّ التوصل إلى “اتفاق الطائف” في أواخر عام 1989 الذي نقل لبنان من حال الفوضى إلى وصاية النظام الأسدي الذي شرّع وجوده العسكري وفرض تطبيقًا مجتزأً واستنسابيًا للطائف، وكرّس نظامًا أمنيًا لبنانيًا – سوريًا استمر خمسة وعشرين سنة، عزّزه دخول إيران الخمينية على الساحة اللبنانية بدعمٍ من الوصاية وزرع لغم “حزب الله” الذي لا يزال لبنان منذ نحو أربعين سنة يدفع ثمن أفعاله تقسيمًا مذهبيًا مقيتًا وفسادًا وزبائنيةً ورشوةً مقابل ضمان الحفاظ على سلاحه وتحويل لبنان إلى ساحةٍ مشرّعةٍ لكل أنواع التهريب والمخدرات وقاعدةٍ للتدخل في مختلف الدول العربية لدرجة أنه أصبح معزولًا عربيًا ودوليًا. أمّا المسؤولون، فقد ارتضى بعضهم دور المنفّذ الأمين لسياسته والقتال بسيفه. وعلى الرَّغم من الانسحاب الإسرائيلي عام 2000 اختلق النظام السوري مسألة “مزارع شبعا” كمسمار جحا كي يُبقي “حزب الله” على سلاحه باسم المقاومة ويحافظ على ازدواجية السلطة. وبعد اغتيال رفيق الحريري عام 2005، انتفش “حزب الله” لملء الفراغ وقرّر الهروب إلى الأمام وتجاوز الدولة بخوض حرب تموز 2006، ثم لعب دور الشرطي في 7 أيار 2008 ضدّ اللبنانيين، وغيرها من الانتهاكات لسلطة الدولة.

وفي تشرين الأول 2023، قرّر أن “يتضامن” مع “حماس” ويفتعل “حرب مساندة” ردّت عليها إسرائيل في أيلول 2024 بشنّ حربٍ مدمرةٍ عليه كانت بمثابة بداية انهيار ميليشيا الدويلة، تبعها بعد شهريْن فقط انهيار النظام الأسدي الذي كان يشكّل الركيزة الأساسية من ركائز نظام تمدّد النفوذ الإيراني في المنطقة. وهذان الحدثان مهّدا الطريق لإحداث تغيير جذري في لبنان بانتخاب رئيس غير تابع لـ”حزب الله” ورئيس حكومة من خارج الطقم التقليدي يشكّل حكومةً ليس لـ”حزب الله” فيها ممثلون حزبيون ولا ثلث معطل بإمكانه أن يتحكّم بقرارات الحكومة وحتى إسقاطها إذا أراد. وهكذا، أصبح تسليم السلاح وتطبيق “الطائف” الهدفَيْن الأساسيَيْن للسلطة الجديدة.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us