استقرار في معدّلات الطلاق في لبنان: هل انتهت العاصفة أم تغيّر شكلها؟!

الطلاق في لبنان لا يزال عند البعض عيبًا، أو عبئًا، أو دليل فشل، وهو ما يدفع الكثيرين إلى “طلاقٍ صامتٍ” داخل البيت الواحد: حياة بلا حوار، بلا دفء، بلا شراكة.
كتبت ناديا الحلاق لـ”هنا لبنان”:
على مدى السنوات القليلة الماضية، مرّ لبنان بتحوّلاتٍ جذريةً عصفت بكلّ مفاصل الحياة، من الاقتصاد إلى السياسة، ومن العمل إلى العلاقات الاجتماعية والعائلية. وسط هذه الانهيارات المتوالية، تسلّلت أزمة الطلاق بهدوء لكنّها كانت شديدة الوطأة، إذ شهدت البلاد ارتفاعًا غير مسبوق في حالات الانفصال، عكست ما يتجاوز مجرّد خلافات زوجية، إلى عمق التصدّع في البنية الاجتماعية.
لكن اليوم، في عام 2025 بدأ منحنى الطلاق يتوقّف عن التصاعد، أو على الأقل يستقرّ عند مستوياتٍ مرتفعةٍ. وتشير الإحصاءات إلى أنّ حالات الطلاق في لبنان بلغت أكثر من 8500، مقابل 30 ألف عقد زواج تقريبًا. هذه الأرقام، وإنْ بدت صادمةً في نسبتها، لم تعد تتصاعد كالسابق. ومع ذلك، لا يعني هذا الاستقرار بالضرورة عودة التوازن، بل ربما يشير إلى تحوّلٍ أعمقٍ في شكل العلاقات الزوجية، أو إلى واقع اجتماعي يفرض على الأزواج الصّمت بدل القرار.
في أروقة المحاكم الشرعية، يُجمع القضاة على أنّ غالبية حالات الطلاق التي عُرضت خلال السنوات الماضية لم تكن ناتجةً عن خيانةٍ أو عنفٍ أسريّ، بل كانت في الغالب انعكاسًا لضغوطٍ اقتصاديةٍ خانقةٍ، وبطالةٍ مزمنةٍ، وشعورٍ عامٍّ بانعدام الأمان. الأزواج الذين دخلوا قاعات المحاكم لم يكونوا خصمَيْن في صراع، بل شريكَيْن في أزمة، يواجهان الواقع أكثر مما يواجهان بعضهما البعض. عبارات مثل “ما بقى فينا نكمّل” أو “الوضع ما بيسمح” باتت تتكرّر، لا كتبريرٍ، بل كاعترافٍ بعجزٍ جماعيّ عن بناء حياةٍ مستقرةٍ وسط الانهيار.
إلّا أنّه مع بداية عام 2025، بدأت معالم تبدّل تلوح في الأفق. فبحسب ما نقل عن أحد القضاة الشرعيين، لوحظ تراجعٌ في عدد طلبات الطلاق، مع تسجيل عودة عددٍ من الأزواج إلى الحياة المشتركة، بعد أن كانوا قد بدأوا إجراءات الانفصال. هذه العودة، وإن بدت محدودةً، تعكس مؤشراتٍ أوليةً على تغيّر المزاج الاجتماعي، وربّما بروز ميل لدى البعض للتماسك في وجه الأزمات بدلًا من الهروب منها.
أمّا في الأطر القانونية للطوائف المسيحية، فقد شهدت الأشهر الأولى من عام 2025 تراجعًا ملحوظًا في طلبات إبطال الزواج، والتي كانت قد بلغت ذروتها في السنوات الماضية. ويرى مطّلعون على الشأن الكنسي أنّ هذا التراجع قد يعود إلى أسبابٍ متعددةٍ، أبرزها تراجع حالات الزواج الجديدة أساسًا، بفعل الهجرة وتردّي الأوضاع المعيشية، إلى جانب ازدياد وعي الأزواج بأهمية اللجوء إلى الإرشاد الروحي والاستشارة الأسرية قبل طلب البطلان.
وبحسب المطلعين، “يُلاحظ أن بعض الكنائس بدأت تعتمد نهجًا أكثر مرونةً في التعامل مع الأزمات الزوجية، من خلال لجانٍ متخصصةٍ تعنى بمحاولة المصالحة، وإعادة بناء التواصل بين الأزواج، بدل الاقتصار على الإجراءات القانونية. ويبدو أن هذه الجهود أثمرت في الحدّ من التصعيد، وساهمت في تقليص عدد القضايا المرفوعة أمام المحاكم الكنسية”.
في كلتا الحالتين، المسلمة والمسيحية، لا يمكن اعتبار هذا التراجع نهاية الأزمة، بل هو بداية تحوّلٍ يحتاج إلى تثبيتٍ ورعايةٍ، في مجتمعٍ لا يزال يبحث عن التوازن وسط العاصفة. فالاستقرار الظاهري في الأرقام قد يخفي خلفه واقعًا أكثر تعقيدًا، يتمثّل في علاقاتٍ تتآكل بصمتٍ داخل الجدران المُغلقة. فالكثير من الأزواج اليوم عالقون في زيجاتٍ ميتةٍ لا ينفصلون عنها، لا حبًّا وقناعةً، بل لعدم قدرتهم على تحمّل تكاليف الانفصال، لا ماديًا ولا اجتماعيًا.
الطلاق في لبنان لا يزال عند البعض عيبًا، أو عبئًا، أو دليل فشل، وهو ما يدفع الكثيرين إلى “طلاقٍ صامتٍ” داخل البيت الواحد: حياة بلا حوار، بلا دفء، بلا شراكة.
وهكذا، لا يعكس استقرار معدّلات الطلاق بالضرورة تعافي المؤسّسة الزوجية بقدر ما يعكس قدرة اللبنانيين على التكيّف القسري مع واقعٍ متقلّبٍ. وسط هذا المشهد، تبدو الأسرة اللبنانية وكأنّها في حالة انتظار: لا تنهار بالكامل، ولا تتعافى. لا تتقدّم، ولا تعود إلى الوراء. حالةٌ من التوازن الهشّ، تتغذى على الصبر، والعادة، والخوف. في هذا السّياق، يظهر أنّ استقرار الطلاق ليس دليلًا على شفاء المجتمع، بل إشارة إلى أنه بات يخبّئ أوجاعه، ويتعامل معها بصمت، على أمل أن تنتهيَ العاصفة… أو أن يتغيّر شكلها.