بالأرقام… هكذا تنعكس الحرب على الاقتصادَيْن الإيراني والإسرائيلي!


خاص 20 حزيران, 2025

الحرب الاقتصادية لم تعد محصورةً بين طهران وتل أبيب، بل باتت تُلقي بظلالها الثقيلة على المشهد الإقليمي برمّته. فاضطرابات أسعار النفط، وتقلّب الأسواق، واهتزاز حركة التجارة الإقليمية، كلّها مؤشرات إلى عمق التأثير المحتمل في اقتصادات البلدين ودول الجوار.

كتب أنطوان سعادة لـ”هنا لبنان”:

في منطقةٍ مُلتهبةٍ أصلًا بالتوتّرات والصراعات الجيوسياسية، لم تَعُدِ الحروب تُخاضُ فقط عبر البنادق وقذائف المدافع، بل باتت أدواتها تمتدّ إلى ميادين الاقتصاد، حيث الأرقام تكتسب دلالةً مُوازيةً للقنابل، والخسائر المالية تُضاهي الدمار المادي في تأثيرها. لقد أفرزت التطوّرات الأخيرة في المواجهة بين إيران وإسرائيل مشهدًا جديدًا للحرب، تتجاوز فيه المواجهة حدود الجبهات التقليدية، لِتطالَ بعمقٍ البنية الاقتصادية والمالية لكلّ من البلدين.

ففي خضمّ تصعيد عسكري متبادل، ووسط خطاب سياسي مشحون، بدأ أثر الصراع يتغلغل في مفاصل الحياة الاقتصادية، من مؤشرات التضخّم والعملة، إلى تراجع النموّ وزيادة الديون. هذا التحوّل من الحرب الصلبة إلى الحرب الناعمة لا يُخفّف من حِدَّةِ الأضرار، بل يُعقّد المشهد ويُنذر بنتائج بعيدة المدى، ليس فقط على طهران وتل أبيب، بل على الإقليم برمّته، الذي بات مهدّدًا بالمزيد من التقلّبات الاقتصادية، وبتحوّل ساحة النزاع إلى أزمة تتقاطع فيها مصالح الطاقة، والاستقرار الداخلي، وحركة الأسواق.

إنّ ما نشهده اليوم ليس مجرّد فصلٍ جديدٍ من الصراع الإيراني – الإسرائيلي، بل هو مثال صارخ على تحوّل الحروب الحديثة، حيث الاقتصاد بات سلاحًا لا يقلّ فتكًا عن النار والحديد، يحمل في طيّاته تأثيرات قد تمتدّ لعقود، وتُعيد تشكيل التوازنات في الشرق الأوسط.

إيران… اقتصادٌ مُتعثّر يُواجه الأسوأ

منذ أكثر من عقدٍ من الزمن، يقف الاقتصاد الإيراني عند مفترق طرق حادّ، بين العقوبات الدولية التي تُقيّده، وبين أزماتٍ داخليةٍ مزمنةٍ تُعيق تعافيه. العقوبات الأميركية، التي فُرضت على مراحل متعدّدة منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي عام 2018، لم تترك قطاعًا حيويًا إلّا وأثّرت فيه، بدءًا من صادرات النفط، مرورًا بالمعاملات المصرفية، وصولًا إلى الاستثمارات الأجنبية والقدرة على استيراد التكنولوجيا والمعدّات. ومع الوقت، تراكمت تداعيات هذه الضغوط الخارجية مع تحدّيات داخلية لا تقلّ خطورة، وعلى رأسها تفشّي الفساد، وانعدام الشفافية، وسوء التخطيط والإدارة الاقتصادية، مما أدّى إلى بنية اقتصادية هشّة عاجزة عن امتصاص الصدمات.

ومع اندلاع المواجهة العسكرية الأخيرة مع إسرائيل، بدا أن الاقتصاد الإيراني، المُنهك أصلًا، قد دخل مرحلةً أكثر قتامةً وتعقيدًا. فقد تسارعت مؤشرات الانكماش، واتّسعت دوائر الأثر الاقتصادي من المؤسسات الكبرى إلى الحياة اليومية للمواطن. حالة “الركود التضخمي” — وهي من أصعب الحالات الاقتصادية التي تجتمع فيها قوى التباطؤ الاقتصادي مع الارتفاع المستمرّ في الأسعار — أصبحت واقعًا دائمًا في الأسواق الإيرانية. فالاقتصاد شبه مشلول، الاستثمار مُتوقف، القطاعات الإنتاجية تُعاني من الشلل، ومع ذلك تُواصل الأسعار الارتفاع بوتيرةٍ مقلقة.

وصل معدّل التضخم إلى نحو 45%، فيما لا يُتوقع أن يتجاوز النمو الاقتصادي في عام 2025 نسبة 1.5%، وهي نسبة تعكس فقط الحدّ الأدنى من الحركة الاقتصادية اللازمة لتفادي الانهيار الكامل. أمّا الريال الإيراني، فقد بلغ مستوياتٍ قياسيةً من التدهور، إذ لامس سعر الدولار في السوق السوداء مليون ريال، بعدما كان قبل اندلاع المواجهة العسكرية الأخيرة بحدود 600 ألف ريال. هذا التراجع الحادّ في قيمة العملة الوطنية لم ينعكس فقط على أسعار السلع المستوردة، بل ضرب أيضًا ثقة المواطنين بالعملة المحلية، وزاد الضغط على السيولة الداخلية.

في قلب هذه الأزمة، تقف الحكومة الإيرانية أمام مأزقٍ تمويليّ خانق، إذ تعتمد بشكلٍ رئيسيّ على صادرات النفط لتمويل الموازنة، لكن هذه الصادرات تخضع لعقوباتٍ صارمةٍ تُقيّد الكمية والأسواق والأسعار. إيران غالبًا ما تلجأ إلى بيع النفط بخصومات كبيرة، أو عبر ترتيبات مقايضة مع دول مثل الصين وفنزويلا، ما يقلل من العائدات الفعلية ويزيد من هشاشة المالية العامة. الضربات الإسرائيلية الأخيرة، التي استهدفت منشآت صناعية ونووية وعسكرية، لم تكن فقط رسائل عسكرية، بل كانت ضربة معنوية واقتصادية، إذ عمّقت حالة عدم اليقين، وأدّت إلى تراجع حادّ في البورصة الإيرانية، وتسارَع هروب المستثمرين المحليين والأجانب.

وفي ظلّ هذا المشهد القاتم، تتزايد الضغوط على الشارع الإيراني، حيث ترتفع معدلات الفقر، وتتراجع القدرة الشرائية، ويشتدّ الغضب الشعبي، في وقتٍ تواجه فيه الحكومة خياراتٍ محدودةً جدًا بين شدّ الأحزمة، أو مواجهة تصاعد الاستياء الاجتماعي الذي يهدّد بالتحول إلى أزمة سياسية داخلية.

إسرائيل… كُلفة الحرب تلتهم الاقتصاد

على الضفّة الأخرى من الصراع، لا يبدو الوضع الاقتصادي في إسرائيل أفضل حالًا، بل إنّ الحرب التي اشتعلت شرارتها في أكتوبر/تشرين الأول 2023 مع قطاع غزّة، ثم تطوّرت لاحقًا إلى مواجهة مباشرة مع إيران، ألقت بظلالٍ ثقيلةٍ على مختلف مفاصل الاقتصاد الإسرائيلي، وأدخلته في أزمةٍ توصف بأنها من بين الأسوأ في تاريخه الحديث. فعلى الرَّغم من أن إسرائيل تمتلك اقتصادًا متطوّرًا نسبيًا ومتنوّع القاعدة، فإنّ هشاشته أمام النزاعات الممتدة بدأت الظهور تدريجيًا، وباتت كلفة الحرب تفرض نفسها كعامل ضاغط على المالية العامة والنمو والاستثمار.

تُقدّر تكلفة الحرب اليومية ضدّ إيران بـ725 مليون دولار، وهو مبلغ ضخم يعكس استنزافًا ماليًا هائلًا في ظلّ حالة استنفار عسكري مستمر. هذا الإنفاق العسكري المتواصل أدّى إلى ارتفاع العجز المالي إلى %4.9 من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما تجاوز السقف الذي حدّدته الحكومة سابقًا. في الوقت نفسِه، ارتفعت نسبة الدين العام من 60% إلى 69%، وهو ما يثير القلق لدى المؤسسات المالية الدولية والمستثمرين، خصوصًا في ظل انخفاض وتيرة النموّ وتراجع الإيرادات الضريبية.

انعكست هذه التطوّرات على مجمل البيئة الاقتصادية في إسرائيل، حيث قام بنك إسرائيل بتخفيض توقعاته للنمو لعام 2024 إلى 1% فقط، بعد أن كانت التوقعات سابقا تُلامِس 6.4%، مما يعكس حجم التدهور الاقتصادي خلال فترةٍ زمنيةٍ قصيرة. هذا الانخفاض لا يرتبط فقط بالحرب، بل أيضًا بحالة عدم الاستقرار السياسي، والجدل الداخلي حول سياسات الحكومة، والتي أثّرت سلبًا في ثقة الأسواق.

تضرّرت بشكلٍ خاصٍّ القطاعات التكنولوجية المتقدمة، التي تُعد العمود الفقري للاقتصاد الإسرائيلي. فقد تراجعت الاستثمارات في شركات التكنولوجيا الناشئة، وتوقفت مشاريع كبرى كانت تُعوّل عليها الحكومة لجذب رؤوس الأموال الأجنبية. كما ازدادت مُعدّلات البطالة نتيجة التباطؤ الاقتصادي وتقلّص فرص العمل، خصوصًا في قطاعات مثل السياحة والخدمات.

من جهة أخرى، دفعت الضغوط المالية المتزايدة الحكومة إلى اتباع سياساتٍ تقشّفيةٍ أثّرت بشكل مباشر في الخدمات العامة، لا سيما الصحة والتعليم والبنية التحتية. وقد أثارت هذه الإجراءات موجاتٍ من الاحتجاجات الشعبية في عددٍ من المدن، وسط تصاعد القلق من تداعياتٍ اجتماعيةٍ قد تضع مزيدًا من الأعباء على كاهل الدولة. فالاستياء الشعبي في تزايد، والخوف من دخول إسرائيل في حالة من الانقسام الداخلي نتيجة تآكل الثقة بالمؤسسات الرسمية بات ملموسًا أكثر من أي وقت مضى.

في المُحصلة، يُظهر المشهد الإسرائيلي كيف يمكن للحرب أن تتحوّل من مشروع سياسي أو أمني قصير الأمد، إلى أزمةٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ ممتدةٍ، تُهدد بنية الاستقرار الذي لطالما تفاخر به الاقتصاد الإسرائيلي في العقود الماضية.

اللّافت في هذا المشهد أن الاقتصاد لم يَعُد مجرّد ضحية جانبية للنزاعات، بل تحوّل إلى ساحة مواجهةٍ رئيسيةٍ، تُدار فيها المعارك بلغة الأرقام والعجز والعقوبات. النزيف المالي اليومي الذي تشهده كل من إيران وإسرائيل يُقوّض قدرتهما على الصمود طويل الأمد، ويُسرّع من اعتماد كلّ طرف على الدعم الخارجي، سواء عبر الحلفاء الاستراتيجيين أو من خلال قنوات المساعدات الدولية والمؤسّسات المالية.

إلّا أنّ ما يُثير القلق على نحو أوسع هو أنّ هذه الحرب الاقتصادية لم تعد محصورةً بين طهران وتل أبيب، بل باتت تُلقي بظلالها الثقيلة على المشهد الإقليمي برمّته. فاضطرابات أسعار النفط، وتقلّب الأسواق، واهتزاز حركة التجارة الإقليمية، كلّها مؤشرات إلى عمق التأثير المحتمل في اقتصادات دول الجوار، من تركيا والخليج العربي، وصولًا إلى العراق ولبنان، التي تعاني أصلًا من هشاشة بنيوية تجعلها أكثر عرضة للارتدادات.

وإنْ استمر التصعيد العسكري والاقتصادي على المسار ذاته، فإنّ الشرق الأوسط بأسره مُقبل على مرحلةٍ جديدةٍ، لا تُقاسُ بتعداد الضربات والصواريخ، بل بحجم الفاتورة الاقتصادية التي قد تطال الجميع — دولًا وشعوبًا — وتُعيد رسم أولويات الأمن والاستقرار في المنطقة لعقود قادمة.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us