بيروت بلا ماء: العاصمة تختنق والعطش يفضح دولةً بلا مسؤولين!

تتعامل السلطات المعنية مع ملف المياه كأنّه تفصيل ثانوي في أجندة الانهيار. الحكومة، التي رفعت شعار “الإصلاح والتغيير”، تبدو حتى الآن عاجزةً عن تأمين الحدّ الأدنى من الحقوق الأساسية. لا خطة طوارئ، ولا جدول توزيع واضح، ولا رقابة على الصهاريج، ولا مُساءلة لمؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان التي تغيب عن السمع والأنظار.
كتبت ناديا الحلاق لـ”هنا لبنان”:
تحت شمس حزيران اللاهبة، يتصاعد أنين العاصمة بيروت، ليس بسبب انقطاع الكهرباء أو تراكم النفايات هذه المرة، بل بسبب أزمة المياه التي تخنق أحياءها وتدفع سكانها إلى حافّة العطش، في مشهدٍ لم تألفه المدينة إلّا في سنوات الحصار أو الحرب.
من رأس النبع إلى فرن الشباك، ومن الحمرا إلى الطريق الجديدة، يتوحّد الصوت الشعبي: “المياه مقطوعة، والناس تشتري حاجتها بأسعار خيالية”.
في قلب العاصمة التي طالما تغنّى بها الشعراء كعروسٍ للشرق، بات الحصول على المياه مهمّةً شاقةً لا تختلف كثيرًا عن الكفاح اليومي من أجل البقاء.
ويبدو أن بيروت دخلت رسميًّا في نفق “العطش المنظّم”، حيث تغيب الدولة، وتتقدّم الصهاريج الخاصة لملء الفراغ بأسعار تفوق قدرة المواطنين على الاحتمال.
هدى، أرملة وتعمل في سوبرماركيت، تقيم في منطقة رأس النبع، تسرد حكايتها بمرارة: “صارلنا أكتر من أسبوعين عم نشتري مياه من صهاريج خاصة، كل 2000 ليتر بمليون و200 ألف ليرة. وهذه ليست لمياه الشرب، بل للغسيل والاستعمال اليومي فقط. المبلغ الذي أدفعه شهريًا يُعادل نصف معاشي تقريبًا”.
وتشير هدى إلى خزّانها شبه الفارغ قائلة: “نعيش على أعصابنا، كل يوم حديثنا الشاغل أصبح: “شوفوا إذا في مي” ضغط ما في، والضخّ معدوم، فيما المسؤولون غائبون وكأنّ الأزمة في كوكب آخر”.
وفي الطريق الجديدة، لا تبدو الصورة أفضل حالًا. الحي الشعبي المكتظ يعاني من التهميش ذاته. يقول أبو حسن، وهو موظف متقاعد: “نصرف أكثر من مليون ليرة على كل تعبئة مياه. من وين منجيب؟ معاشنا ما بكفي كهربا ودواء وأكل، صار بدنا نختار: نشرب ولا نطبخ ولا نغسل؟ وكل ما نسأل بيقولولنا: ما في كهربا، ما في محروقات، ما في معدّات. يعني ببساطة: تحمّلوا عطشكم بصمت!”.
حتّى أحياء بيروت الغربية التي كانت تعتبر واجهةً حضاريةً واقتصاديةً، لم تُستثنَ من الأزمة. في الحمرا، تُشير ندى، وهي موظفة في أحد المصارف، إلى مشهدٍ غير مألوف: “نتشارك صهريج المياه مع الجيران، ونضبط الاستهلاك يومًا بيوم. لا نعلم متى يتوقف الضخّ، ولا متى يعود. هذه بيروت، وليست ضيعة نائية في أطراف الوطن”.
أمّا في فرن الشباك، فالأزمة تأخذ طابعًا اقتصاديًا مدمّرًا. سامر، صاحب مطعم صغير، يعبّر عن امتعاضه: “إذا ما في مي، ما في شغل. لا تنظيف، لا طهو، لا استقبال زبائن. عم نخسر زبائننا لأنهم يخافون من غياب النظافة، والبلدية ما بتسأل ولا بتراقب. وين الإصلاح يلي وعدونا فيه؟”.
وعلى الرَّغم من الأزمات المتراكمة، تتعامل السلطات المعنية مع ملف المياه كأنّه تفصيل ثانوي في أجندة الانهيار. الحكومة، التي رفعت شعار “الإصلاح والتغيير”، تبدو حتى الآن عاجزةً عن تأمين الحدّ الأدنى من الحقوق الأساسية. لا خطة طوارئ، ولا جدول توزيع واضح، ولا رقابة على الصهاريج، ولا مُساءلة لمؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان التي تغيب عن السمع والأنظار.
النتيجة، بيروت تُترك وحيدةً، يفتّش سكانها عن مصدر حياة يُفترض أنّه من أبسط حقوق الإنسان، فيما تنشغل الطبقة السياسية في حسابات الصفقات وتوزيع المغانم. أمام هذا الواقع، يتساءل المواطنون: أين الوعود التي أطلقتها حكومة “الإصلاح”؟ أين الدولة التي قالت إنها ستعيد بناء الثقة مع الناس؟ وكيف يمكن الحديث عن نهوض اقتصادي أو اجتماعي في ظلّ عجزٍ تامٍّ عن توفير أبسط متطلبات الحياة اليومية؟
في مدينة تموت فيها الحياة قطرة… قطرة، يبدو أن الدولة، بكل مؤسّساتها، تغسل يديها من أزمة المياه كما غسلتها سابقًا من ملفات النفايات والكهرباء والصحة.
بيروت اليوم عطشى… لا بسبب الجفاف، بل بسبب الجحود الرسمي. والناس الذين صمدوا في وجه الحروب والانفجارات والانهيارات، باتوا يخوضون معركتهم الأخيرة من أجل شربة ماء تحفظ ما تبقّى من كرامة.