الاستهداف الإسرائيلي للعيرونية: جغرافيا النار تتوسع


خاص 9 تموز, 2025

في زمن المسيّرات، لم يعد هناك “خط تماس”. صار لبنان كله مكشوفًا، من الناقورة إلى طرابلس، ومن العيرونية إلى كل زاوية يظن أهلها أنّ الحرب بعيدة… فإذا بها في السماء، تراقب، وتختار، وتضغط على زر..

كتب جو أندره رحال لـ”هنا لبنان”:

لم تكن بلدة العيرونية، تلك القرية الهادئة شمال لبنان، تتوقّع أن تتحوّل في لحظة إلى عنوان رئيسي في نشرات الأخبار. صباح 8 تموز 2025، دوّى انفجار غريب عن المكان، غريب عن الناس، عن روتين الميكانيكي “عمر زهرة” الذي كان يستعد لبدء نهاره بين المحركات والزيت والحديد. لم يكن جنديًا، لم يكن قائدًا ميدانيًا. كان ببساطة رجلاً من أهل هذه الأرض، يفتح باب رزقه ويعيش بكرامة. لكنّ طائرة إسرائيلية من دون طيار قرّرت غير ذلك.

المسيّرة التي استهدفت سيارة قرب محله بدقة لم تقتل فقط إنسانًا، بل قتلت الشعور بالأمان في شمال لبنان، وطرحت السؤال الكبير: لماذا الآن؟ ولماذا هنا؟ في بلدة لطالما نأت بنفسها عن الصراعات، وفضّلت أن تبقى على الهامش، بعيدًا عن نيران الجنوب، وعن هموم المواجهات المفتوحة.

لكنّ “الهامش” سقط. العيرونية دخلت بنك الأهداف الإسرائيلي، لا لشيء إلا لأنها تلاصق مخيم البداوي – حيث يقيم آلاف اللاجئين الفلسطينيين، بعضهم مرتبط بشكل أو بآخر بحركات مقاومة مثل حماس. فجأة، لم تعد الجغرافيا تحمي. لا الجبل، ولا البحر، ولا البعد السياسي، ولا حتى الفقر الذي يُفترض أنه يُبقي الناس في منأى عن الحرب.

الاستهداف لم يكن معزولًا عن السياق. ففي تموز، اشتدت حرارة المواجهة في غزة، وازداد الضغط العسكري جنوبًا، بالتزامن مع حركة دبلوماسية أميركية لافتة في بيروت، وعروض وتسويات تُطبخ على نار هادئة. أرادت إسرائيل على ما يبدو أن تُحدث خرقًا في مكان غير متوقّع، وأن تقول لكل من يعنيهم الأمر: لا مكان خارج مرمى النار.

لكن الرسائل الأمنية الإسرائيلية هذه المرة لم تكن موجّهة إلى التنظيمات فحسب، بل إلى اللبنانيين أنفسهم. فالقصف الذي راح ضحيته مدنيّ بسيط في بلدة صغيرة كضرر جانبي، لم يُرفَق بأي إعلان رسمي أو تبرير عسكري. تُركت الجثة في الأرض، وتُرك الجرح للناس، بينما الدولة اللبنانية اكتفت بالبيانات، و”حزب الله” صمت.

في هذه اللحظة بالذات، تبدو الأسئلة أكبر من الأجوبة:
هل سيصبح الشمال ميدانًا جديدًا لحرب الظل؟
هل ما جرى هو سابقة عابرة أم جزء من سياسة مستمرة؟
هل تُدرك الدولة اللبنانية أن الطائرات المسيّرة باتت تحوم فوق رؤوسنا من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال؟

أما الناس في العيرونية، فليس لديهم رفاهية التحليل. هم مشغولون بجنازة شهيدهم، وبالخوف من أن يتحوّل صمت السماء في أي لحظة إلى طنين قاتل جديد.
هم فقط يُريدون أن يعرفوا: لماذا قُتل عمر؟ وما إذا كانت أسماء جديدة ستُضاف إلى اللائحة، دون محاكمة، دون إنذار، دون تهمة.

العيرونية ليست جبهة، وليست معسكرًا، ولا قاعدة عسكرية. إنها بلدة لبنانية تنام باكرًا وتصحو على رائحة الخبز والقهوة. لكن هذا الصباح تغيّر كل شيء. الحدود تمددت، والحرب دخلت البيت من النافذة، لا من الباب.

في زمن المسيّرات، لم يعد هناك “خط تماس”. صار لبنان كله مكشوفًا، من الناقورة إلى طرابلس، ومن العيرونية إلى كل زاوية يظن أهلها أنّ الحرب بعيدة… فإذا بها في السماء، تراقب، وتختار، وتضغط على زر..

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us