موازنة 2026: أول امتحان لحكومة “الإصلاح”… هل تنتصر الرؤية الاقتصادية أم يستمرّ النهج القديم؟

من الجمارك إلى الأملاك البحرية، مرورًا بالكهرباء والاتصالات وسواها، تُشكّل هذه الموارد كنزًا مُهمَلًا كان يمكن أن يُغنيَ الدولة عن السياسات الضريبية العشوائية التي أرهقت المواطن وأضعفت الدورة الاقتصادية.
كتب أنطوان سعادة لـ”هنا لبنان”:
تتّجه الأنظار إلى مشروع موازنة العام 2026، الذي من المفترض أن يُشكّل أول اختبار فعلي وجدّي لحكومةٍ تُقدَّم على أنّها “إصلاحية”، في وقتٍ يمرّ لبنان في إحدى أصعب مراحله الاقتصادية والاجتماعية منذ تأسيسه. فالموازنة المقبلة لا تأتي في سياقٍ اعتيادي، بل تُطرح في ظلّ انهيارٍ نقديٍّ متواصل، وشللٍ في مؤسسات الدولة، وتآكل الثقة بين المواطن والدولة، فضلًا عن ضغوطات خارجية متزايدة.
وبينما تعاني البلاد من ارتفاع معدّلات الفقر والبطالة وتراجعٍ في الخدمات الأساسية، تبدو الموازنة المنتظرة وكأنّها امتحانٌ للنيّات والقدرات معًا: هل ستنجح هذه الحكومة في كسر الحلقة المُفرغة من السياسات التقليدية، وتقديم موازنةٍ تضع الأسس لنموٍّ مُستدامٍ وعدالةٍ اجتماعيةٍ؟ أم أنّها ستُعيد إنتاج النمط المُحاسبي القائم على الجباية العشوائية وسدّ العجز من جيب المواطن؟
فبحسب ما أكّده وزير المالية ياسين جابر، الوزارة ماضية في تقديم مشروع الموازنة في موعده الدستوري قبل نهاية شهر آب المقبل، مشيرًا إلى أنّ الجهود تُبذل لتضمينها خطواتٍ لِبنودٍ متوسطة الأجل تواكب الرؤية الإصلاحية للحكومة.
كما كشف جابر لـ”هنا لبنان” أنّ الإصلاحات الأساسيّة مستمرّة، وأنّ الحكومة تعمل على تأمين تمويلاتٍ خارجيةٍ للقطاعات الأساسية، كالكهرباء، والزراعة، والبنى التحتية، وإعادة الإعمار، لافتًا إلى أن قسمًا من هذه الأموال يأتي كقروضٍ من البنك الدولي، ولا تدخل كلّها ضمن أرقام الموازنة، بل يُسجَّل فقط ما يجب على الدولة تسديده خلال السّنة، مثل الأقساط المُستحقّة، وذلك لأنّ الجهات الدولية تشترط أن تتضمّن الموازنة فائضًا لا عجزًا.
لكن بعيدًا عن التصريحات المتكرّرة والوعود، يبقى التحدّي الحقيقي في مضمون الموازنة ونوعيتها، لا في توقيت تقديمها أو التزامها الشكلي بالمواعيد الدستورية. فلبنان، وعلى مدى سنواتٍ طويلةٍ، اعتاد نمطًا من الموازنات أشبه بدفاتر حسابية تقنية، تفتقر إلى الرؤية الاقتصادية الشاملة أو التخطيط المالي طويل الأمد. وغالبًا ما كانت هذه الموازنات تنطلق من منطق الجباية لا منطق التنمية، إذ تُبنى على زياداتٍ في الضرائب والرسوم تطال جَيْبَ المواطن مباشرةً، من دون أن تُرْفَقَ بإصلاحاتٍ هيكليةٍ جدّيةٍ تطال مصادر الهدر البنيوي في الدولة.
تحوّلت الموازنة في الكثير من الأحيان إلى أداةٍ لسدّ العجز لا لمعالجة أسبابه، فغابت السياسات الإنتاجية، وتمّ تجاهل إعادة هيكلة القطاعات الحيوية، وتُركت مكامن الهدر الكبرى – من التهرّب الضريبي والجمركي، إلى فساد الصفقات العمومية وسوء الإدارة في المؤسسات العامة – من دون أيّ معالجاتٍ حقيقيةٍ. والأسوأ أنّ الموازنات السابقة كانت تُقرّ في الكثير من الأحيان من دون حساباتٍ ختاميةٍ دقيقةٍ، ما أفقدها الشفافية والمصداقية أمام الداخل والخارج على حدٍّ سواء.
من هنا، فإنّ التحدّي في موازنة 2026 لا يقتصر على توازن الأرقام، بل يتعدّاه إلى ضرورة أن تعكس الموازنة رؤيةً اقتصاديةً وطنيةً واضحةً: ما هي أولويات الدولة؟ كيف ستُحفّز النمو؟ بأي أدواتٍ ستُوزَّع الأعباء بعدالة؟ وهل سيتحوّل بند الإنفاق إلى أداةِ استثمارٍ في البنى التحتية والإنتاج؟
في هذا الإطار، أوضح وزير المال أنّ الوزارة تعمل على خطّةٍ لمكافحة التهرّب الضريبي والجمركي، تتضمّن استقدام أجهزةٍ إلكترونيةٍ متطوّرةٍ تُستخدم في الدول المتقدّمة، قادرةً على كشف تفاصيل المعاملات وضبط مساراتها، ما من شأنه أن يحدّ من التهريب الجمركي ويعزّز واردات الدولة بشكلٍ ملحوظ.
كما شدّد جابر على أنّ لا ضرائب عشوائية ستُفرض فيها، بخلاف الموازنات السابقة، وأصرّ على أنّ لا إنفاقات إضافية ستُدرج ما لم تُقابلها إيرادات إضافية، في محاولةٍ لضبط العجز والابتعاد عن السياسات الإنفاقية غير المدروسة.
وفي السياق الإصلاحي ذاتهِ، لفت الوزير إلى أنّ قانون تنظيم المصارف من المتوقّع أن يُقرَّ في الفترة القريبة المقبلة، وقد أُزيلت بعض العقبات، ما يُمهّد الطريق أمام استعادة ثقة المواطنين، وتحفيز عودة النشاطات الاقتصادية والمالية، بما يُساهم في إزالة اسم لبنان عن “اللائحة الرمادية”.
في المقابل، لا يزال لبنان يمتلك قطاعاتٍ عامةً واعدةً تختزن إمكاناتٍ هائلةً يمكن، إذا خضعت لإصلاحاتٍ جذريةٍ وشفّافةٍ، أن تدرَّ على خزينة الدولة إيراداتٍ ضخمةً تُقدّر بمليارات الدولارات سنويًا. من الجمارك إلى الأملاك البحرية، مرورًا بالكهرباء والاتصالات وسواها، تُشكّل هذه الموارد كنزًا مُهمَلًا كان يمكن أن يُغنيَ الدولة عن السياسات الضريبية العشوائية التي أرهقت المواطن وأضعفت الدورة الاقتصادية.
لكن لا يمكن لأيّ موازنة أن تستحق صفة “الإصلاحية” ما لم تنطلق من رؤيةٍ اقتصاديةٍ متوسطةٍ وطويلة الأمد، تُوازن بين مُتطلّبات الإنفاق وقدرات الإنتاج، وتُعيد ترتيب الأولويات وفق منطق المصلحة الوطنية.
تبقى الأنظار معلّقةً على مشروع موازنة 2026: هل سيكون بالفعل نقطة تحوّل تُعيد الاعتبار للمالية العامة والدور التنموي للدولة؟ الأيام، والأرقام التي سترد في الأسطر المقبلة، وحدها قادرةٌ على الإجابة.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() موجة هجمات روسية تستهدف غرب أوكرانيا وتصعيد ميداني مستمر | ![]() “اليونسكو” تدرج موقع موروجوغا الصخري في قائمة التراث العالمي | ![]() بالفيديو – حريق في مجمّع ABC بالأشرفية |