ميزانية “القرض الحسن” تُقدَّر بمئات ملايين الدولارات… القرار صدر بحق المؤسسات لكن ماذا عن المتعاملين؟


خاص 17 تموز, 2025

مصرف لبنان لن يساوم في الملفات التي تمسّ بسمعة النظام المالي اللبناني، ولن يغضّ الطرف عن أي جهة مرخّصة تُخالف قواعد الالتزام الدولية، لا سيما في ظلّ الضغوط المتزايدة من مجموعة العمل المالي (FATF) التي وضعت لبنان على اللائحة الرمادية، وأشارت بوضوح إلى أنّ الخروج منها يمرّ عبر خطوات واضحة وصارمة

كتب أنطوان سعادة لـ”هنا لبنان”:

مصرف لبنان يحظر التعامل مع “القرض الحسن” وكل جهة خاضعة للعقوبات الدولية… بهذا القرار الواضح والصارم، قطع مصرف لبنان الشكّ باليقين: ممنوع على أي مصرف أو مؤسسة مالية مرخّصة التعامل مع “القرض الحسن” أو أي جهة أخرى مدرجة على لوائح العقوبات الدولية. فالقاعدة التي لطالما كانت جزءًا من النظام الداخلي للمصرف، لم تعد مجرّد بند تنظيمي، بل تحوّلت إلى إجراء تنفيذي ملزِم يحمل في طيّاته رسائل داخلية وخارجية.

هذا القرار لم يأتِ من فراغ، بل يُعاد التأكيد فيه على مبدأ أصيل موجود ضمن نظامه الداخلي. لكن التوقيت، كما السياق، يرفعان من أهميته، ويحوّلانه من مجرد تذكير قانوني إلى رسالة مباشرة: المصرف لن يساوم في الملفات التي تمسّ بسمعة النظام المالي اللبناني، ولن يغضّ الطرف عن أي جهة مرخّصة تُخالف قواعد الالتزام الدولية، لا سيما في ظلّ الضغوط المتزايدة من مجموعة العمل المالي (FATF) التي وضعت لبنان على اللائحة الرمادية، وأشارت بوضوح إلى أن الخروج منها يمرّ عبر خطوات واضحة وصارمة.

لكنّ خلف هذا القرار الجريء، تبرز أسئلة مشروعة: من الجهة التي تملك صلاحية ملاحقة المخالفين؟ وماذا عن الأفراد الذين يتعاملون مع جهات مدرجة على لوائح العقوبات؟ وهل “القرض الحسن”، المصنّف كجمعية وليس كمصرف، يُعامل كجهة مالية مخالفة؟ وما مصير أموال الناس المودعة هناك؟

لا بدّ من التذكير بأنّ “القرض الحسن” هو كيان مرخّص رسميًا كجمعية أهلية غير ربحية، ويقدّم خدمات مالية تشمل منح القروض وتحصيل السداد من دون فوائد تقليدية. ورغم هذا الترخيص القانوني، فإن الجمعية تمارس فعليًا أنشطة مصرفية بحتة، مثل قبول الودائع وتقديم القروض، ما يجعلها تتجاوز الإطار القانوني المسموح به للجمعيات.

يمتلك “القرض الحسن” شبكة واسعة من الفروع في الضاحية الجنوبية لبيروت ومناطق أخرى، ويعتمد على قاعدة كبيرة من المتعاملين، خصوصًا في البيئة الحاضنة لحزب الله الذي يُعتبر الراعي السياسي الرئيسي له. وقد أُدرجت الجمعية على لوائح العقوبات الأميركية والدولية، بتهمة تقديم دعم مالي مباشر لهذا الحزب، مما يجعل التعامل المالي معها مخالفًا للقوانين الدولية المعتمدة في لبنان.

بحسب ما كشفت مصادر مصرف لبنان لموقع “هنا لبنان”، فإنّ القاعدة التي تحظر على أي مصرف أو جهة مالية مرخّصة من قبل المصرف المركزي التعامل مع جهات خاضعة لعقوبات دولية، ليست إجراءً جديدًا، بل هي بند راسخ في النظام الداخلي للمصرف. إلا أنّ القرار الأخير جاء ليعيد تفعيل هذه القاعدة بصيغة تنفيذية واضحة، تُثبت أن مصرف لبنان بدأ فعليًا باتخاذ خطوات إصلاحية ملموسة، لا تكتفي بالشعارات أو التصريحات.

وتشدّد المصادر على أنّ كل مؤسسة مالية أو مصرفية في لبنان، في حال ثبت تورّطها في تعاملات مع جهات مدرجة على لوائح العقوبات، ستُواجه إجراءات صارمة تبدأ بالملاحقة القانونية، وقد تصل إلى تعليق أو سحب الترخيص، تجميد الحسابات والأصول، أو حتى الإحالة إلى هيئة التحقيق الخاصة.

هذا الإجراء، وفقاً للمصادر، يعكس جدّية المصرف المركزي في تطبيق المهام الموكلة إليه ضمن صلاحياته، لا سيما في ملفّ مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. كما يندرج القرار في إطار خطة العمل المطلوبة من لبنان من قِبل مجموعة العمل المالي الدولية (FATF)، التي سبق أن أدرجت البلاد على “اللائحة الرمادية”، ووضعت أمامه مجموعة شروط للامتثال. وبالتالي، فإنّ تفعيل هذه القاعدة يُعدّ خطوة أساسية على طريق استعادة ثقة المجتمع الدولي والخروج من هذه اللائحة.

أما في ما يخصّ الأفراد الذين قد يتعاملون مع جهات مدرجة على لوائح العقوبات، وعلى رأسها “القرض الحسن”، فقد أوضحت المصادر أنّ هذا الأمر لا يدخل ضمن نطاق صلاحيات مصرف لبنان، الذي يقتصر دوره على تنظيم ومراقبة المؤسسات المالية والمصارف المرخّصة فقط.

وفي هذا السياق، لفتت المصادر إلى أنّ “القرض الحسن” مرخّص كجمعية لا كمؤسسة مالية، وبالتالي يُمنع عليها قانونًا ممارسة أي نشاط مالي أو مصرفي مثل منح القروض أو تقاضي الفوائد أو إجراء تحويلات. وبما أن الجمعية تخطّت صلاحياتها القانونية، فإنّ المعالجة تقع على عاتق الجهات الرسمية، لا سيما وزارة الداخلية والسلطة القضائية، اللتين يُفترض أن تتحرّكا سريعًا لضبط المخالفات، ووضع حدّ لأي جهة مشابهة قد تتجاوز صلاحياتها أو تتعامل مع أطراف خاضعة للعقوبات الدولية.

وبحسب معلومات خاصة حصل عليها “هنا لبنان”، فإنّ الميزانية التشغيلية لـ”القرض الحسن” تُقدَّر بمئات ملايين الدولارات، ما يطرح علامات استفهام كبيرة حول مصادر هذه الأموال، وآليات إدارتها، وكيفية استخدامها خارج أي إطار مصرفي أو رقابي شرعي. حجم هذه الميزانية يعزّز المخاوف من أنّ الجمعية لا تمارس فقط دورًا ماليًا غير قانوني، بل تتحوّل تدريجيًا إلى نظام مالي موازٍ خارج رقابة الدولة، ما يشكّل تهديدًا مباشرًا للنظام المالي الرسمي في البلاد، وخرقًا فاضحًا للقوانين اللبنانية والدولية على حدّ سواء.

في النهاية، قرار مصرف لبنان بحظر التعامل مع “القرض الحسن” وكل الجهات المالية المدرجة على لوائح العقوبات، هو بمثابة إعلان نوايا جدّي لإعادة ضبط النظام المالي اللبناني، وإثبات التزامه بالمعايير الدولية التي طالما طالبت بها مجموعة العمل المالي . FATF لكنه في الوقت ذاته، يفتح الباب أمام تحديات كبيرة، تبدأ من ضبط الجمعيات التي تتجاوز صلاحياتها القانونية، وحماية أموال المودعين الذين لا ذنب لهم في الخروقات.

يبقى السؤال الأكبر: هل ستنجح السلطات اللبنانية والقضاء في ترجمة هذه القرارات إلى واقع عملي يحمي الاقتصاد الوطني ويعيد ثقة المجتمع الدولي؟ أم ستظل المسارات معبّدة بالعراقيل السياسية والمصالح المتداخلة التي تعيق الإصلاح الحقيقي؟

الوقت وحده كفيل بالإجابة، لكن الواضح أنّ مصرف لبنان أرسل رسالة صارمة: الخطوط الحمراء واضحة، ولن يُسمح بتجاوزها مهما كانت الضغوط.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us