رغم كلّ شيء يعودون… صيف 2025 يستحق أن يُروى!

يشهد لبنان هذا الصيف حراكاً لافتًا، لا يُقاس فقط بالأرقام بل بما يُحدثه في النفوس، فالطرقات المؤدية إلى الجبال تشهد زحمة محبّبة، والشواطئ تستعيد روّادها، والمهرجانات تعود إلى بلداتها، ولو بإمكانات محدودة، وكأنّ اللبنانيين قرّروا، عن وعيٍ أو عناد، أن يتمسّكوا بالفرح كما يتمسّكون بالحياة
كتبت كارين القسيس لـ”هنا لبنان”:
يطلّ صيف 2025 كنقطة ضوء في نفق طويل، ونسيمه لا يشبه نسائم الأعوام الماضية، فهو لا يُختزل في كونه مجرّد هروب موسمي من حرارة الصيف، بل يُعدّ لحظةً صافية من التشبّث بما تبقّى من روح هذا الوطن، ففي ظلّ التدهور السياسي، والانكماش الاقتصادي، والمخاوف الأمنية التي أصبحت جزءاً من تفاصيل الحياة اليومية للبنانيين، يظلّ هناك أمل لا ينكسر، ينبع من عزيمة اللبنانيين الذين ما اعتادوا الانكسار، ولم يختاروا المقاومة بالسلاح فقط، بل قاوموا بإرادتهم، وبصبرهم، وبتمسّكهم بهذه الأرض التي ما زالت، رغم الجراح، تنبض بالحياة.
ومن المطار تبدأ الرحلة، حركة الطائرات تتزايد، وصالات الوصول تعجّ بوجوه مشتاقة لأهلها وأرضها، مصدر مسؤول في شركة طيران الشرق الأوسط يُفيد في حديث إلى “هنا لبنان” بأنّ الإقبال على السفر إلى لبنان هذا الصيف شهد ارتفاعاً ملحوظاً مقارنة بصيف 2024، موضحاً أنّ نسبة الحركة ارتفعت بشكل واضح، وإن كانت لا تزال أقل من معدّلها في صيف 2019، العام الذي سبق الانهيار الشامل.
ويُضيف أنّ نسب إلغاء الحجوزات، رغم الأوضاع الإقليمية المتوترة، بقيت منخفضة بشكل لافت، ما يدلّ على أنّ من اختار زيارة لبنان، فعل ذلك بقناعة داخلية، لا عن صدفة عابرة، بل إيماناً بأنّ هذا الوطن، مهما تعثّر، لا يزال يحمل في طيّاته ما يستحق الحياة.
لكن الصورة على أرض الواقع أكثر تعقيداً من أن تُختصر بالأرقام وحدها، ففي شوارع بيروت، رغم كل ما مرّت به، يقول أحد أصحاب المطاعم في حديثه إلى “هنا لبنان” إنّ الإقبال على مؤسسته يُعدّ “عادياً”، لا مرتفعاً ولا منخفضاً، مشيراً إلى أنّ معظم المطاعم تعتمد حالياً على الزبائن المحليين والسياحة الداخلية، في حين يبقى الحضور الاغترابي أقل من المتوقع.
ويرى أنّ افتتاح مطاعم جديدة ساهم في خلق منافسة إيجابية على الساحة، إلاّ أنّه أدّى في الوقت نفسه إلى تراجع متوسط الإقبال على كل مطعم بشكل عام.
ويتابع، “ما دام الوضع الأمني غير مستقر، لا يمكننا أن نأمل بموسم سياحي ناجح، فالمغترب الذي يأتي إلى لبنان يفضّل غالباً البقاء مع عائلته، بعيداً عن الحركة والتنقل، خوفاً من مفاجآت أمنية، وهناك الكثير من المغتربين يترددون في القدوم، خشية أن تتفاقم الأحداث فجأة، فيُحتجزوا أو يُمنعوا من العودة إلى عملهم أو دراستهم في الوقت المطلوب”.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أنّ لبنان يشهد هذا الصيف حراكاً لافتًاً، لا يُقاس فقط بالأرقام، بل بما يُحدثه في النفوس، فالطرقات المؤدية إلى الجبال تشهد زحمة محبّبة، والشواطئ تستعيد روّادها، والمهرجانات تعود إلى بلداتها، ولو بإمكانات محدودة. كذلك، تنبض الأسواق الشعبية بالحياة، وتنتشر المبادرات الشبابية الثقافية والتراثية والفنية، من حفلات موسيقية، إلى معارض وأكشاك تدعم الإنتاج المحلي، وكأنّ اللبنانيين قرّروا، عن وعيٍ أو عناد، أن يتمسّكوا بالفرح كما يتمسّكون بالحياة.
واللافت أيضاً هذا الصيف هو عودة العديد من المغتربين اللبنانيين، لا بدافع السياحة فحسب، بل انطلاقاً من الانتماء والرغبة في استعادة شيءٍ من الذاكرة، بعضهم جاء ليستثمر في مشروع صغير، وبعضهم عاد ليقضي أياماً هادئة في قريته بين أهله، وبالتالي، هؤلاء لا يراهنون على تحسّن سياسي أو نهوض اقتصادي، بل على رابطٍ عاطفي لا ينفكّ، اسمه التجذّر في الأرض.
وفي حديثه لـ”هنا لبنان”، يقول أحد المغتربين العائدين من الولايات المتحدة: “مهما سافر اللبناني وزار بلداناً كثيرة، يبقى لبنان أجمل بلد، بأهله وناسه، وصحيح أنّ الوضع الاقتصادي صعب للغاية، لكن في نهاية المطاف، تشعر بالأمان حين تكون نائماً في منزلك، وبين أهلك.
وفي هذا المناخ المتباين بين الحركة والخوف، تتأرجح مشاعر اللبنانيين بين التفاؤل والحذر، ففي زاويةٍ ما، يُقام احتفال بسيط، وفي أخرى، تُتابَع نشرات الأخبار بقلق بالغ، وبالتالي لبنان اليوم لا يشبه نفسه بالأمس، والحياة فيه باتت معركةً يومية يخوضها اللبنانيون بروح الحبّ والفرح.
صيف 2025 قد لا يكون صيفاً مثالياً، ولا موسم العودة إلى “سويسرا الشرق”، لكنّه فصل يستحق أن يُروى، لأنه يُجسّد حقيقة لا تقبل الجدل، “لبنان لا يزال حيّاً ولا يزال يتنفّس، ويضحك، ويُغنّي، ويحتضن كلّ من قرّر أن يُراهن عليه، ولو لأيام قليلة”، فهذا الوطن، رغم ما يحمله من تعب وألم، لا يزال يملك قدرةً استثنائية على أن يُحَبّ، ففيه من يؤمن، ومن يعود، ومن يزرع، ومن ينتظر.
الأهم من كل ذلك، أنّ فيه أيضاً من قرّر أن لا يرحل، لا عن عناد فحسب، بل عن يقينٍ داخلي بأنّ لبنان لا يزال يستحق فرصة.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() زحلة تبلّغت وبلّغت… عمليات بيع وتملّك مشبوهة تغزو المدينة! | ![]() نانسي اختفت… هكذا تتحوّل عاملات المنازل إلى ضحايا شبكات الدعارة! | ![]() مياه الضاحية والشياح تتدفق.. والمتن يئن تحت وطأة العطش |