بيروت على حافة الصمت: بلدية مشلولة تصارع الانهيار بثلاثة خيوط أمل

البلدية، التي كانت تعدّ من أغنى البلديات في لبنان وأكثرها قدرة على الحركة، أصبحت اليوم عاجزة حتى عن تأمين أبسط الحقوق الأساسية لسكان العاصمة، كدفع الرواتب أو تنفيذ صيانة روتينية، نتيجة سلسلة من التراكمات التي تعود إلى عقود طويلة من الإهمال وسوء الإدارة، تفاقمت في السنوات الأخيرة بفعل الانهيار المالي والنقدي الذي أطاح بمقومات الدولة
كتبت ناديا الحلاق لـ”هنا لبنان”:
تتهاوى بيروت بهدوء ثقيل، كما لو أنّها تُطفئ آخر أضواء مجدها بيديها. المدينة التي لطالما كانت مرآة لبنان ومركز إشعاعه الإداري والثقافي، باتت اليوم مرهقة، مثقلة بالأزمات، تغرق في مشهد يتقاطع فيه العجز مع الإهمال، وتلتقي فيه سنوات التراكم المؤسسي المتداعي بالانهيار الاقتصادي الذي اجتاح البلاد دون هوادة.
بيروت لم تعد قادرة على التنفس. تراكم النفايات في الشوارع، الطرقات المعتمة ليلاً، الدوائر الرسمية المقفلة أو المشلولة، كلها مؤشرات واضحة لانهيار بلدي آخذ في الاتساع. البلدية، التي كانت تعدّ من أغنى البلديات في لبنان وأكثرها قدرة على الحركة، أصبحت اليوم عاجزة حتى عن تأمين أبسط الحقوق الأساسية لسكان العاصمة، كدفع الرواتب أو تنفيذ صيانة روتينية.
من رحم هذا الواقع القاسي، تبرز محاولات خجولة لاحتواء ما يمكن احتواؤه. إذ يطل عضو مجلس بلدية بيروت المحامي محمد بالوظة، متحدثاً بصراحة لافتة عن عمق الأزمة، وواصفاً ما تعيشه البلدية اليوم بـ”الشلل المؤسسي”. بالنسبة له، ما يحدث ليس أزمة عابرة أو نتاج ظروف آنية، بل نتيجة سلسلة من التراكمات التي تعود إلى عقود طويلة من الإهمال وسوء الإدارة، تفاقمت في السنوات الأخيرة بفعل الانهيار المالي والنقدي الذي أطاح بمقومات الدولة.
يشرح بالوظة، بهدوء لا يخفي القلق، أنّ بلدية بيروت تواجه اليوم نزيفاً في مواردها البشرية. أعداد كبيرة من الموظفين غادروا مواقعهم إلى التقاعد من دون أن يصار إلى تعيين بدلاء، في وقت تمنع فيه القوانين الحكومية أي توظيف جديد في القطاع العام. ولأن تعيينات بلدية بيروت تخضع لمجلس الخدمة المدنية، فهي لا تملك حتى خيار التعاقد المباشر. الأسوأ من ذلك، كما يوضح، أنه منذ ثمانينات القرن الماضي لم تدخل البلدية أي أجراء جدد، ما جعل نسبة الشغور في الوظائف تتجاوز نسبة الموظفين الفعليين، وفرض واقعًا قاسيًا من الشلل على الإدارة.
انعكست هذه الفجوة مباشرة على نوعية الخدمات، فبات الحضور الإداري شبه رمزي، والدوام متقطعًا، والدوائر مشلولة. في مصلحة النظافة، لم يبقَ سوى عاملين أو ثلاثة، جميعهم من المتقاعدين، بينما تعتمد البلدية بالكامل على شركة “رامكو” لتأمين النظافة. غير أنّ الشركة نفسها تراجعت في أدائها بعد أن طالتها تداعيات الأزمة الاقتصادية، فخفّضت عدد شاحناتها، وقلّصت عمليات الجمع، وتراجعت نوعية اليد العاملة المستخدمة، ما انعكس بشكل واضح على نظافة العاصمة.
المال، بدوره، لم يكن أقل حضوراً في مشهد الانهيار. بلدية بيروت التي كانت تمتلك يوماً موازنة ضخمة، وجدت نفسها فجأة محرومة من الجزء الأكبر من مواردها بسبب الانهيار المصرفي، ما جعلها عاجزة عن تنفيذ أي مشروع، أو حتى صيانة البنى التحتية الأساسية. كل شيء تعطّل: من الإنارة العامة إلى إصلاح الأعطال، ومن تجهيز المكاتب إلى دفع الرواتب. في ظل هذه الظروف، تحوّل الهيكل المالي للبلدية إلى مجرد واجهة فارغة، تسير على حدّ الكفاف.
ومع ذلك، يشير بالوظة إلى أن المجلس البلدي الحالي لم يأتِ ليقف مكتوف اليدين. بل وضعت خطة نهوض ثلاثية المحاور، تقوم أولًا على رفع نسبة الجباية، حيث تشير الأرقام إلى أن سبعين في المئة من سكان بيروت لا يدفعون الرسوم البلدية، ما يعني فقدان البلدية لمورد كبير كان من شأنه أن يساهم في تغطية النفقات. المحور الثاني يتمثل في توسيع قاعدة المكلفين عبر إجراء مسح ميداني للعقارات المكتومة، وفرض رسوم عادلة على مؤسسات خاصة كمنتجعات البحر ومتعهدي الحفلات الذين لا يصرّحون عن كامل نشاطهم. أما المحور الثالث، فهو الانفتاح على الشراكات مع المنظمات الدولية، حيث بدأ التعاون فعلياً مع جهات مثل “يونوبس” و”اليونيسف” و”يو إن هابيتات”، مع مساعٍ لتوسيع هذا التعاون ليشمل منظمات محلية وأجنبية أخرى قد تساهم في تمويل مشاريع حيوية للمدينة.
في خضم هذا الجهد، تبقى الكوادر البشرية المتبقية في البلدية جزءًا من الأزمة نفسها. نحو 200 موظف مدني و800 عنصر من الحرس والإطفاء يشكّلون الجسم الإداري والأمني، لكن معظمهم يفتقر للتدريب الحديث، خصوصاً في مجال التكنولوجيا والأنظمة الإلكترونية. الرواتب، من جهتها، لا تزال تتراوح بين 200 و400 دولار، ما يعمّق الإحباط واللامبالاة، ويدفع بالبعض إلى التقاعس والانسحاب المعنوي من الخدمة العامة. ورغم ذلك، تحاول البلدية اتخاذ بعض الإجراءات الجزئية، كمنح بدلات خطر لبعض الفئات، ورفع توصيات إلى مجلس الوزراء لإقرار بدلات تشجيعية جديدة، لكنها لا تزال تنتظر ردودًا لم تصل بعد.
وحين يُسأل محمد بالوظة عمّا إذا كانت هذه الخطط ستثمر وسط هذه التعقيدات، يرد بنبرة حاسمة ولكن هادئة، قائلاً إن المجلس البلدي الحالي لا يتذرّع بالعراقيل، بل يسعى بكل الوسائل الممكنة إلى العمل من داخل الهامش المتاح. يعترف بأن البيروقراطية معقدة، وأن العوائق كبيرة، لكنّه يؤمن أنّ الانقاذ ممكن إذا تضافرت الجهود مع المجتمع المدني والدولي. ويقول بصراحة نادرة: “إذا فشلنا، فلن نخجل من مواجهة الناس، والاعتراف بعجزنا، وترك المجال لغيرنا. لكن طالما هناك أمل، نحن مستمرون”.
وهكذا تبقى بيروت معلّقة على خيط رفيع من الرجاء. مدينة تقاتل كي لا تتحوّل إلى ذكرى. بلدية تحاول أن تنهض وسط ركام مؤسساتها. وجهد صادق، وإن بدا متواضعًا، يخطّ دربًا صعبًا في طريق مزدحم بالأسئلة والمخاوف. هل تكفي الخطط؟ هل تصمد الإرادة؟ أم أن الانهيار قدر لا مفر منه؟ وحدها الأيام المقبلة ستكشف ما إذا كانت بيروت ستنجو من اختبار السقوط، أم أنها ستُترك لتنهار بصمت.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() عودة جورج عبدالله: خطاب على أنقاض التاريخ | ![]() بيروت على حافّة كارثة… وحدات التكييف المعلّقة على الأبنية تهدّد حياة المارة | ![]() قرار دستوري يُنهي عقودًا من الظلم: قانون الإيجارات غير السكنية يدخل حيّز التنفيذ |