خطأ فادح ترتكبه الدولة في مقاربة السلاح

كل ما يحاول أن يفعله “الحزب” اليوم هو إلحاق مصير وقف النار بمصير الـ1701. لكن مشكلته تكمن في أن الشرق الأوسط لم يعد هو نفسه الذي كان قبل 19 عاماً، بل انقلبت فيه الموازين رأساً على عقب، من طهران نفسها إلى غزة، إلى بغداد، ودمشق خصوصاً، وصولاً إلى بيروت. وهناك محور إقليمي كامل سقط أو قيد السقوط التام. ولا شيء إطلاقاً يستطيع “الحزب” أن يفعله اليوم في مواجهة إسرائيل. عملياً، إنه الاستسلام، لكنه غير معلن..
كتب طوني عيسى لـ”هنا لبنان”:
في زمن نجيب ميقاتي وحكومته، وآموس هوكشتاين ووساطته مع نبيه بري، وتحت أطنان القنابل المدمرة، من الجنوب إلى البقاع والضاحية، صرخ “حزب الله”: لم نعد نتحمل. أوقفوا القتل والتدمير. قولوا للأميركيين إننا مستعدون للحل الذي يريدون!
طبعاً، قوانين الحرب معروفة: المنتصر يفرض ما يناسبه. وقد استغل الإسرائيليون هذه القاعدة حتى الثمالة، وفرضوا وقفاً للنار (وليس نهايةً للحرب) هذه خلاصته: سلاح “حزب الله” يُنزع بالكامل، من لبنان كله، بدءاً من جنوب الليطاني، بإشراف لجنة عسكرية يرأسها جنرال أميركي. ولكن، حتى اكتمال المهمة، يحق لنا أن نتصرف في لبنان وكأن الحرب مستمرة، بمعنى أننا نواصل طلعات الاستكشاف وعمليات التدمير والاغتيال في أي مكان من لبنان، بتغطية أميركية. وتوسع الإسرائيليون في التفسير، فقرروا الاحتفاظ بنقاط عسكرية حدودية تشكل لهم حزاماً أمنياً، ولن يغادروها إلا بعد أن يتأكدوا من التنفيذ التام للاتفاق.
لم يكن “الحزب” يتصور أن اتفاق وقف النار الخريفي سيكون “قاسياً” عليه إلى هذا الحد. وفي الواقع، هو فكّر في “لفلفة” الاتفاق والمراوغة لتجنب تنفيذه، كما “لفلف” التعاطي مع القرار 1701. يومذاك أيضاً، استعان “الحزب” بحكومة فؤاد السنيورة والأميركيين لوقف الحرب الإسرائيلية بأي ثمن. لكنه عندما ارتاح، تنكر لكل مضامين القرار، المستند إلى القرارين 1559 و1680. وفي الخلاصة، تقضي هذه القرارات بانسحاب “الحزب” من جنوب الليطاني، وتسليم سلاحه بالكامل إلى الدولة. وهو الهدف الذي أعاد تأكيده قرار وقف النار في تشرين الثاني الفائت.
كل ما يحاول أن يفعله “الحزب” اليوم هو إلحاق مصير وقف النار بمصير الـ1701. لكن مشكلته تكمن في أن الشرق الأوسط لم يعد هو نفسه الذي كان قبل 19 عاماً، بل انقلبت فيه الموازين رأساً على عقب، من طهران نفسها إلى غزة، إلى بغداد، ودمشق خصوصاً، وصولاً إلى بيروت. وهناك محور إقليمي كامل سقط أو قيد السقوط التام. ولا شيء إطلاقاً يستطيع “الحزب” أن يفعله اليوم في مواجهة إسرائيل. عملياً، إنه الاستسلام، لكنه غير معلن.
في هذا الخضم، انجرف لبنان إلى معادلة خطرة جداً. فعندما أدرك “الحزب” أنه بات جدياً أمام نزع سلاحه وتفكيك بنيته العسكرية، ابتعد قليلاً، وجيَّر المواجهة إلى الدولة اللبنانية. وهو إذ رفض تسليمها السلاح، جزئياً جنوب الليطاني وكلياً شماله، جلس بباطنية يحاسبها ويعاتبها ويعاقبها لأنها عاجزة عن ردع إسرائيل، متجاهلاً أن لا أحد في الشرق الأوسط كله، وإيران في الطليعة، يتوهم بامتلاكه القدرة على تحقيق الحد الأدنى من توازن الردع العسكري أو السيبراني مع إسرائيل. فكيف للحكومة اللبنانية المسكينة أن تفعل؟
الخطأ- وربما الخطيئة- الذي ارتكبته حكومة لبنان، في زمن ميقاتي، والذي ورثته حكومة نواف سلام، هو الآتي: عندما وافق “حزب الله” على اتفاق وقف النار، مباشرة ومن خلال بري، كان يجب على هذه الحكومة ألا تتبرع بإقحام الجيش في التنفيذ، خلال المرحلة الأولى. وكان الأجدى والأسلم للبنان أن تترك “الحزب” نفسه يتحمل مسؤولية التعاطي المباشر مع الأميركيين والإسرائيليين، وأن يبرهن عن رغبته في الوفاء بالتزاماته أولاً من دون أي تدخل من جانب الجيش، ما دام الإسرائيليون يتولون الأمر معه مباشرة. وكان على الحكومة حينذاك أن تصارح “الحزب” وتقول له: حتى لا تنتقل المواجهة من لبنانية- إسرائيلية إلى لبنانية- لبنانية، سنترك لك أن تقوم بنفسك وفي شكل تلقائي بتنفيذ الشق الذي أنت التزمت به، جنوب الليطاني. وتبلغ إسرائيل بذلك. وعندما تصبح الساحة “نظيفة” وآمنة، أبلغنا بالأمر لننشر الجيش هناك.
أهمية هذه الآلية تكمن في أنها تضع “الحزب” مكشوفاً في مواجهة التزاماته مع إسرائيل، فلا يستطيع تجييرها إلى الدولة والجيش. ويضطر هو نفسه إلى معالجة المشكلة التي قاد البلد ونفسه إليها، فلا يتهرب ويرميها على الدولة والجيش. ففي هذه الحال، إذا رفض التزام وقف النار، ستكون مشكلته مع إسرائيل، ولن يكون لبنان كدولة وجيش متورطاً فيها. وعلى الأرجح، في هذه الحال، سيجد “الحزب” نفسه مجبراً على التزام الاتفاق الذي وقعه، لأنه لن يستطيع رمي كرة النار على الدولة والجيش.
الأرجح أن حكومة “حزب الله” حينذاك، أي حكومة ميقاتي، قررت بخبث أخذ كرة النار من حضن “الحزب”، فورطت الدولة والجيش. وبعد ذلك، تم توريث هذه الكرة للعهد الجديد برئاسة العماد جوزاف عون والذي يقوم بكل ما يلزم تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار. وفي الواقع، يقوم “الحزب” بالانتقام من الدولة والجيش، لأنه عاجز عن الانتقام من إسرائيل.
هو خطأ ارتكبته حكومة ميقاتي، أو خطيئة: توريط الدولة والجيش بهدف نزع المسؤولية عن “الحزب” ومنحه فرصة للابتعاد عن النار، ودفع لبنان بدولته وجيشه وشعبه إليها. وقد يرى البعض أن القطار قد فات، ولا يمكن للدولة أن تتراجع عن مقاربتها الرديئة التي التزمتها في تشرين، ولكن في الواقع، يمكن للدولة أن تقوم بمراجعة جذرية لطريقة التعاطي مع هذا الملف، بحيث تضع صاحب الشأن نفسه، أي “حزب الله” في مواجهة مباشرة مع الاستحقاقات، وبمفرده، ما دام يعلن كل يوم أنه يمتلك القوة ويرفض تسليم سلاحه. وهذه المراجعة ضرورية لإعادة المواجهة إلى أساسها، بين طرفين هما “الحزب” وإسرائيل. وهذا ما يجنب لبنان مخاطر الوحول الداخلية التي ربما يغرق فيها تدريجياً من دون إدراك منه.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() ما الذي سيفعله “الحزب”؟ | ![]() العاجزون أمام السلاح الفلسطيني كيف ينزعون سلاح “الحزب”؟ | ![]() شروط “الحزب” لتسليم السلاح |