الحرب فرّقت العمّ طوني عن الحاج حسين… والجنوب المسيحي يرفض العيش تحت هيمنة “الحزب”!


خاص 15 آب, 2025

شعب يريد السلام، لكنّه لا يملك أدواته، ومواطنون يؤمنون بالتعايش، لكنّهم يُجبرون على قبوله، في ظلّ غياب القدرة على التأثير في القرار السياسي والأمني، وبالتالي فإنّ المفارقة الكبرى تكمن في أنّ هذا الشعب الجبّار، لا يزال متمسكًا بوحدة الجنوب، لأنّه يدرك أنّ أي تمزّق إضافي ستكون له تداعيات كارثيّة.

كتبت كارين القسيس لـ”هنا لبنان”:

من الجنوب اللّبناني، وتحديدًا من بلدة “رميش” الهادئة على “حدود النار”، تخرج حكاية تُلامس وجدان كلّ جنوبي لا يزال يحلم بالسلام، لكنّها في جوهرها صفعةٌ مؤلمةٌ لبلدات تعيش منذ سنوات على كذبة “العيش المشترك”، فيما الحقيقة أنّ المسيحي الجنوبي يُجبَر على التكيّف مع خياراتٍ لم يخترْها، ولا يملك ترف رفضها.

رميش، البلدة المسيحيّة المحاذية للخط الأزرق، عاشت لسنوات طويلة جنبًا إلى جنب مع جيرانها من أبناء الطائفة الشيعيّة الكريمة، لا كشعاراتٍ مفرغةٍ، بل كواقعٍ يوميّ فعليّ، فقد توطّدت علاقات متينة، وتكرّست مصالح مشتركة، وتبادلت الزيارات، واحتفلت بالأعياد حيث تقرع الأجراس في الكنائس كما تصدح الزغاريد في الحسينيّات، بل إنّ “المصاهرة” في بعض الأحيان جعلت من هذا التعايش حالةً تتجاوز الانتماء الطائفي، الذي لم يكن يومًا عائقًا حقيقيًا.

لكن خلف هذا المشهد الودّي، يكمن خللٌ قاتل في المعادلة، فعندما يتحوّل التعايش إلى غطاءٍ للهيمنة، لا يعود فعل شراكة، بل يصبح قيدًا مُغلّفًا بالكلام المعسول، ففي رميش، كما في سواها من القرى المسيحية، لا يُستشار الأهالي عندما تُقرّر الحرب، ولا يُؤخذ رأيهم حين تُستخدم أراضيهم منصّاتٍ للإطلاق أو تُحوّل قراهم إلى دروع بشرية، يُطلَب منهم فقط أن “يصمدوا”، أن “يتفهّموا الظروف”، وأن “يصمتوا”… وإلاّ فمصيرهم أن يُتَّهَموا بـ”العمالة”.

العمّ طوني، أحد أبناء رميش، يُجسّد هذا التناقض العميق، رجل تجاوز السبعين، وقضى عمره كله في بلدته، وتربّى بين الحقول، وبنى منزله على تلال الجنوب، ووطّد علاقاته بجيرانه من أبناء الطائفة الشيعيّة، لا سيّما صديقه الحاج حسين، وكانا يلتقيان يوميًا لاحتساء القهوة معًا، ويتبادلان أطراف الحديث عن ماضٍ مشتركٍ، وعن سنواتٍ رحلت ولن تعود، لكنّ “حرب الإسناد” الأخيرة فرّقت الصديقين، إذ دمّر قصف عنيف منزل الحاج حسين، فاضطرّ إلى النزوح نحو بيروت، فيما بقي العم طوني في رميش، ينظر كلّ صباح إلى الكرسي الفارغ، مُدركًا أنّ القهوة فقدت نكهتها ورونقها.

وعلى الرَّغم من هذا الحزن، لا يحمل العمّ طوني أي حقد، بل يقول لـ”هنا لبنان”، “إنّنا لم نختار يومًا الحرب، بل العيش بسلام، فحين يُطرح علينا الاختيار بين الحرية والعيش بأمان، أو بين التمسّك بالعيش المشترك، نختار الأمان، لا لأنّه الأفضل، بل لأنّه الأقل سوءًا”.

ويضيف بأسى: ” نحن نعلم أنّ قيادة “حزب الله” لم تسألنا عن رأينا، ولم تستأذن قبل أن تحوّل أرضنا إلى ساحة مواجهة، لم تسألنا حتى إن كنّا نريد أن نكون جزءًا من محور أو من معركة لا ناقة لنا فيها ولا جمل… ومع ذلك، نختار في كل مرّة أن نعيش معًا”.

كلمات العم طوني تختصر واقعًا يعيشه مسيحيّو الجنوب، فالتعايش، الذي يُفترض أن يكون فعلًا إراديًا ونتيجة شراكة متكافئة، تحوّل إلى أمر واقع مفروض، وبالتالي لا أحد يُشكّك في شرعيّة العلاقات الاجتماعية أو الروابط الأهلیّة، لكنّ السؤال المطروح اليوم هو: “ما جدوى العيش المشترك إذا فُرض على المسيحيين أن يتنازلوا عن حريتهم وعن أمنهم الشخصي مقابل الحفاظ عليه؟ وكيف يكون التعايش حقيقيًّا إن لم يكن متكافئًا، وإذا كان طرفٌ واحد يُقرّر، ويُسلّح، ويُقاتل، ويُفاوض باسم الجميع، من دون أي تفويض شعبي أو مؤسساتي؟”.

في هذا الواقع المربك، تبدو الدولة مجرّد هيكل هشّ، تتفرّج على مواطنيها وهم يتدبّرون أمنهم اليومي وسط الأمر الواقع، فيما السلاح المُتفلّت يفرض منطقه ويقود أهالي الجنوب نحو المجهول.

ويُشير العم طوني إلى أنّ “حزب الله، الذي لم يُسلّم سلاحه بعد اتفاق الطائف، لا يزال يحتفظ بترسانةٍ عسكريةٍ تحت ذريعة ‘المقاومة’، لكنّه في الواقع يُمارس دورًا يتجاوز الدولة سياسيًا وأمنيًا، ويُعيد إنتاج واقع الحرب بشكل دائم. في المقابل، سلّمت بقية الأحزاب اللبنانية سلاحها، وخضعت لمنطق بناء الدولة، ودخلت اللعبة الديمقراطية”، مشدّدًا على أنّ “مَن سلّم سلاحه خضع للمحاسبة والاعتقال، فيما من احتفظ به بات خارج دائرة النقد”.

ويُتابع: “مسيحيّو الجنوب لم يطلبوا شيئًا مستحيلًا، كلّ ما في الأمر أنّهم يرغبون بالعيش بسلام، من دون خوفٍ من أن تتحوّل منازلهم إلى أهداف، أو أن تُستخدم مناطقهم كورقة ضغط، هم فقط يريدون أن يربّوا أولادهم في كنف دولة، لا في ظل دويْلة، لكنّهم يدركون جيدًا أنّ هذا الحلم لن يتحقّق طالما أنّ هناك سلاحًا لا يخضع لسلطة الدولة، ولهذا، ومع كل هذا “الحَقْن”، يُجبرون على العيش معًا”.

هذه هي المعضلة اللبنانية باختصار، شعب يريد السلام، لكنّه لا يملك أدواته، ومواطنون يؤمنون بالتعايش، لكنّهم يُجبرون على قبوله، في ظلّ غياب القدرة على التأثير في القرار السياسي والأمني، وبالتالي فإنّ المفارقة الكبرى تكمن في أنّ هذا الشعب الجبّار، على الرغم من كلّ ذلك، لا يزال متمسكًا بوحدة الجنوب، لأنّه يدرك أنّ أي تمزّق إضافي ستكون له تداعيات كارثيّة.

وفي نهاية المطاف، كما يردّد أهل رميش، هناك حقيقة واحدة لا يمكن إنكارها: “نحن نعيش معًا، شئنا أم أبينا، لكن إنْ أردنا لهذا العيش أن يستمرّ بكرامة وعدالة وسلام، فلا بدّ من أن يُسلّم حزب الله سلاحه، لأنّ السلام لا يُبنى على فائض القوة، بل على عقد اجتماعيّ حرّ، وشراكة متكافئة، ودولة تحتكر السلاح وتضمن الأمن للجميع، لا لفئةٍ دون سواها.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us