بين الأزمات والنجاح… قطاع الغذاء يسجّل قفزة موسمية بنسبة 25%

هل يستطيع لبنان، في ظل البنية التحتية المتآكلة والمخاطر السياسية والأمنية، أن يستثمر فعليًا في مواسمه النشطة؟ أم أنّ ما يتحقق في شهور الصيف يبقى مجرد انتعاش عابر لا يلبث أن يتبخر مع أول أزمة جديدة؟ وهل يبقى الصيف مجرد هدنة اقتصادية قصيرة؟ أم يتحول، إن أُحسن استثماره، إلى رافعة حقيقية تخرج الاقتصاد من أزماته المتكررة؟
كتبت ناديا الحلاق لـ”هنا لبنان”:
في بلدٍ يرزح تحت أزمات اقتصادية مزمنة، يطلّ الموسم السياحي كفرصة نادرة للانتعاش، تفتح أمام الأسواق مجالًا لاستعادة جزء من حيويّتها وتحقيق بعض التعافي. ومن بين أبرز القطاعات التي تتأثر بشكل مباشر بهذا النشاط، يأتي قطاع المواد الغذائية، الذي يشكّل مرآة لحركة الإنفاق والسلوك الاستهلاكي خلال فترات الذروة السياحية.
لكن هذا النشاط الموسمي، رغم تأثيره الإيجابي الظاهري، لا يخلو من التحديات. فبين التفاؤل التجاري الذي يعكسه رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية هاني بحصلي، والقراءة الأعمق التي يقدمها الخبير الاقتصادي البروفيسور بيار الخوري، تتكشف صورة مركّبة لواقع اقتصادي هش، يستفيد من زخم الصيف لكنه لا ينجح دائمًا في تحويله إلى مكاسب مستدامة.
في هذا السياق، يطرح السؤال الجوهري: هل يستطيع لبنان، في ظل البنية التحتية المتآكلة والمخاطر السياسية والأمنية، أن يستثمر فعليًا في مواسمه النشطة؟ أم أنّ ما يتحقق في شهور الصيف يبقى مجرد انتعاش عابر لا يلبث أن يتبخر مع أول أزمة جديدة؟
“هنا لبنان” يقدم من خلال هذا المقال وجهتي نظر تكملان بعضهما: واحدة من قلب السوق، ترصد حركة الاستهلاك وتحولات العرض والطلب، وأخرى تحليلية، تضع هذه الظاهرة في إطار اقتصادي أوسع، وتطرح توصيات لتحويل الفرصة الموسمية إلى رافعة اقتصادية حقيقية.
وجهة نظر السوق: انتعاش ملحوظ رغم التحديات
يرى رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية، هاني بحصلي أن هذا الموسم كان بمثابة “جرعة أوكسيجين” للسوق، انعكست مباشرة على حركة الاستهلاك، التي شهدت انتعاشًا واضحًا.
لكن، كما يوضح بحصلي، لا يمكن النظر إلى الاستهلاك على أنه حالة واحدة. فهناك نوعان مختلفان من الطلب ظهرا خلال الصيف: الأول يخص المطاعم والملاهي، حيث ارتفع الاستهلاك بشكل كبير على الأصناف الطازجة مثل الخضار والفواكه واللحوم والدجاج، بالإضافة إلى المشروبات والنرجيلة. أما النوع الثاني، فهو استهلاك الأسر في المنازل، الذي تركز أكثر على المواد الأساسية مثل الأرز والحبوب والمعلبات، وشهد هو الآخر تحسناً، ولكن بوتيرة أبطأ.
الملفت أنّ هذه الحركة لم تكن عشوائية، بل نتاج تحضيرات بدأت منذ الشتاء. فبحسب بحصلي، البضائع التي كانت معروضة في آب، جرى طلبها منذ نيسان، والتحضيرات لأشهر أيلول وما بعده بدأت قبل ذلك بكثير. حتى موسم الأعياد، من الميلاد ورأس السنة إلى رمضان والفصح، التحضيرات له بدأت باكرًا لتفادي أي نقص أو مفاجآت.
ورغم أنّ القطاع حقق نموًا جيدًا يُقدّر بين 20 و25%، إلا أنّ هذا الإنجاز لم يأتِ بسهولة. فبحصلي يُشير بوضوح إلى أنّ تمويل الاستيراد يتم بالكامل من رأس مال الشركات، دون أي دعم من المصارف، وهو ما يفرض ضغوطًا كبيرة على المستوردين، خاصة في ظل الأوضاع الأمنية غير المستقرة.
أما ما لاحظه الناس من ارتفاع في الأسعار خلال الصيف، فيربطه بحصلي بزيادة الطلب الموسمية لا بارتفاع تكلفة الاستيراد. ويؤكد أنّ هذه الظاهرة طبيعية، وتشهدها كل الدول خلال الفترات السياحية، متوقعًا أن تنخفض الأسعار تدريجيًا مع انتهاء الموسم.
وعن ضبط السوق، يلفت إلى أنّ المنافسة بين التجار ضرورية لكنها لا تكفي وحدها، بل يجب أن تترافق مع إجراءات واضحة من الدولة، تنظم عمليات الاستيراد وتمنع التهريب والممارسات غير القانونية التي تضر بالجودة والأسعار.
وفي ما يتعلق بمرفأ بيروت، يوضح أنّ مشكلة تخليص البضائع ما زالت قائمة جزئيًا، رغم الجهود المبذولة، لكنه يطمئن إلى أنّ السوق لم تتأثر بأي انقطاع في المواد الأساسية.
وفي الختام، يشدد بحصلي على أنّ صيف هذا العام كان خطوة إيجابية، لكن الأنظار اليوم تتجه إلى القادم، خصوصًا مع اقتراب مواسم الأعياد، التي تتطلب استعدادًا مبكرًا ودقيقًا، حتى لا يُفاجأ السوق بأي خلل في العرض أو الأسعار.
رؤية اقتصادية أوسع: الزخم السياحي… فرصة مؤقتة أم رافعة دائمة؟
اقتصادياً، يرى الخبير الاقتصادي البروفيسور بيار الخوري أنّ “الموسم السياحي في لبنان يشبه ضخّ أوكسيجين إضافي في الاقتصاد لفترة محدودة”، موضحاً أنّ “تدفّق السياح والمغتربين يؤدي إلى نمو واضح في الطلب على مختلف السلع والخدمات، مما يرفع من وتيرة الحركة الاقتصادية، ويزيد من حجم المبيعات”.
ويضيف: “الإنفاق الذي يأتي من الخارج يدخل مباشرة إلى الدورة الاقتصادية، فينشّط الأسواق، ويحرّك عمل التجار والمطاعم والفنادق، كما يخلق فرص عمل إضافية ولو كانت مؤقتة”، مشيراً إلى أنّ “هذا النشاط ينعكس أيضاً على مداخيل الدولة من الضرائب والرسوم، مما يمنح خزينة الدولة والبلديات بعض الموارد الإضافية خلال الصيف”.
لكن الخوري يلفت إلى أنّ هذه الصورة الإيجابية ليست ثابتة، بل يمكن أن تتبدد بسرعة عند أول أزمة. ويقول في هذا السياق: “أي توتر سياسي أو أمني، أو حتى انقطاع في الخدمات الأساسية مثل الكهرباء، قد يُفقد السوق هذا الزخم بسرعة. عندها تتراجع الحجوزات السياحية، ويقلّل الناس من إنفاقهم، مما يؤدي إلى تراجع مباشر في حركة البيع والشراء”.
ويتابع: “لقد أثبتت التجارب السابقة أنّ لبنان قادر على استقطاب أعداد كبيرة من الزوار، لكن ضعف البنية التحتية وعدم الاستقرار السياسي يمنعان البلاد من تحقيق كامل إمكاناتها في هذا المجال”.
ويرى الخوري أنّ التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في الاستفادة من الموسم السياحي، بل في كيفية تحويل هذه الدفعة الموسمية إلى أثر طويل الأمد. ويوضح: “الخطوة الأولى تبدأ بتحسين الخدمات الأساسية، حتى لا تبقى الكهرباء أو الاتصالات أو النقل أو الأمن مصدر قلق للسائح أو المقيم”.
كما يشدد على أهمية المعلومات في اتخاذ القرار، قائلاً: “ربط الأسواق ببيانات فورية حول عدد الوافدين والحجوزات من شأنه أن يساعد التجار والمستوردين على التخطيط المسبق، بدلاً من اتخاذ قرارات متأخرة مبنية على تقديرات غير دقيقة”.
ويختم الخوري بالقول: “الموسم السياحي هو فرصة نادرة لضخ سيولة جديدة في الاقتصاد. وإذا أُدير بذكاء، يمكن أن يعزز النمو، ويخفف من العجز التجاري، ويدعم الموازنة العامة. أما إذا ضاعت هذه الفرصة وسط أزمات السياسة وسوء الخدمات، فإنها تتحول إلى مجرد موجة قصيرة تفلت من اليد”.
بين قراءة بحصلي التي تنطلق من واقع السوق وتجربته اليومية، وتحليل الخوري الذي يضع الإصبع على مكامن الضعف البنيوي، يتبيّن أن الصيف في لبنان، رغم حيويته، يبقى فرصة محدودة بزمن وظروف. والاستفادة منها تحتاج إلى ما هو أكثر من موسم ناجح، تحتاج إلى قرار سياسي، وبنية تحتية مستقرة، وتخطيط اقتصادي بعيد المدى.
فهل يبقى الصيف مجرد هدنة اقتصادية قصيرة؟ أم يتحول، إن أُحسن استثماره، إلى رافعة حقيقية تخرج الاقتصاد من أزماته المتكررة؟