من يحمي اللبنانيين من فوضى التخوين؟!

القضية ليست مع بشرى الخليل وحدها. هي نموذج متكرّر لمناخ بات سائدًا في لبنان: استسهال التخوين والاتهام بالعمالة كأداةٍ سياسيةٍ وإعلاميةٍ. ومع كلّ تصريح من هذا النوع يزداد الشرخ، وتزداد الحاجة إلى قضاءٍ فاعلٍ لا يعرف المساومة ولا يختبئ خلف نقابة أو مؤسّسة.
كتب طوني كرم لـ”هنا لبنان”:
في بلدٍ تتكاثر فيه الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يبدو أن أخطر ما يمرّ به لبنان اليوم هو التساهل الفاضح في إطلاق التصريحات المتهوّرة التي تمسّ برموز الدولة والدين والعيش المشترك، وتضع المواطنين في خانة “العمالة” جزافًا، من دون أن يجد أصحابها رادعًا قضائيًا يضع حدًّا لهذه الفوضى الكلامية المدمّرة.
أحدث الأمثلة الصارخة جاءت على لسان المحامية بشرى الخليل، التي قرّرت أن تفتح النار على البطريركية المارونية، وعلى رأسها البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، بكلامٍ غير مسبوق. فقد شكّكت بمكانة بكركي، وتطاولت على موقعها التاريخي والديني، فقالت: “بكركي مواقفها مش سيادة ونحن السيادة”، وتابعت بسؤال تهكّمي: “من أعطى بكركي مجد لبنان؟”، بل ذهبت أبعد من ذلك فاتهمت البطاركة بأنّهم “مع المشروع الإسرائيلي منذ أيام البطريرك الياس الحويّك”.
ولم تكتفِ الخليل بذلك، بل تمادَت إلى حدود التشكيك بوطنية البطريرك الراعي نفسه: “لازم يعطينا شهادة بوطنيته بالأول قبل ما يتجرّأ يعطي الآخرين شهادة باللّبننة”. وتابعت باستخفاف واضح: “هل بيئة المقاومة بحاجة إلى شهادة باللّبننة من واحد قاعد ببكركي بسّ ينظّر؟”… عبارات أقلّ ما يُقال فيها إنها تحريضية ومُهينة لرمز ديني ووطني جامع.
أمام هذا المشهد، تحرّكت نقابة المحامين في بيروت سريعًا، فاستدعت الخليل، واستمع إليها المحامي عبدو لحود وأعدّ تقريرًا رفعه إلى النقيب فادي المصري، الذي سيقرّر إن كان سيكتفي بالاستدعاء أم سيُحيلها إلى المجلس التأديبي. غير أن السؤال الجوهري يتجاوز حدود النقابة وصلاحياتها: أين القضاء من كلّ هذا؟
فالنقابة، وإن كانت المرجع النقابي الذي يلاحق المحامين مسلكيًا، لا تملك صلاحية الدخول في جوهر الاتهامات الخطيرة التي أطلقتها الخليل. هذه الصلاحية تقع حكمًا على عاتق النيابة العامة التمييزية، التي يُفترض أن تتحرّك تلقائيًا لملاحقة كل من يتجرّأ على بثّ خطابات تحرّض على الفتنة وتُثير النعرات وتلصق تهم العمالة جزافًا، وهي جرائم يُعاقب عليها القانون. لكن، وللمفارقة المرّة، النيابة العامة غائبة… وكأنّ التحريض والتخوين والكراهية باتت تدخل ضمن “العطلة القضائية!”.
ما يجري لا يهدّد فقط مكانة البطريركية المارونية وما تمثل تاريخيًا من ثقل وطني، بل يضرب في الصميم مفهوم العيش المشترك الذي قام عليه لبنان. فحين يُترك المجال لمحامين وناشطين وسياسيين أن يوزّعوا شهادات الوطنية على مزاجهم، وأن ينزعوا صفة السيادة والولاء عن الآخرين، فإنّ البلد بأسره يصبح ساحة فوضى، ويُشرّع الباب واسعًا أمام الانقسامات الطائفية والمذهبية.
صحيح أنّ نقابة المحامين ستقرّر إن كانت ستُحيل الخليل إلى المجلس التأديبي، ومرجّح ألّا “تتلكّأ”، لكنّ محاكمتها ستنحصر في المخالفات المسلكية لمهنة المحاماة، إلّا أنّ هذا لا يلغي الدور الأساسي للنيابة العامة، التي يُفترض أن تتحرّك، ومن ثم يُصار إلى رفع الحصانة النقابية ومتابعة القضية قضائيًا. غير أنّ هذا المسار لم يبدأ بعد، ليبقى السؤال المقلق: هل القضاء خائف؟ مُتغاضٍ؟ أم شريك في سياسة غضّ النظر عن كلّ ما يهدّد الاستقرار الأهلي؟
إنّ القضية ليست مع بشرى الخليل وحدها. هي نموذج متكرّر لمناخ بات سائدًا في لبنان: استسهال التخوين والاتهام بالعمالة كأداةٍ سياسيةٍ وإعلاميةٍ. ومع كلّ تصريح من هذا النوع يزداد الشرخ، وتزداد الحاجة إلى قضاءٍ فاعلٍ لا يعرف المساومة ولا يختبئ خلف نقابة أو مؤسّسة.
إنّ صمت النيابة العامة على هذه القضية وغيرها يكرّس سابقةً خطيرةً: أنّ المسّ بالرموز الوطنية والدينية، كما السياسية والإعلامية والتحريض على الكراهية، يمكن أن يمرّ بلا حساب، وأنّ العدالة انتقائية، تتحرّك حين تريد وتتغاضى حين تشاء. وهذه ليست فقط جريمة بحق القانون، بل جريمة بحقّ الوطن.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() 47 عاماً على تغييب الإمام الصدر: تغييب الدولة الوجه الآخر للجريمة! | ![]() من حفظ السلام إلى صنع السلام: استحقاق اليونيفيل في لبنان | ![]() لبنان دولة لا ضاحية! |