التنمّر في لبنان: بين الألم الصّامت والتشريع المُنتظر!


خاص 8 أيلول, 2025

 

إقرار هكذا قانون قد يكون رادعًا ويؤدّي إلى تخفيف حالات التنمّر المرتَكبة، لأنّه يُظهر أنّ الأفعال ستلقى محاسبةً، علمًا أنّ التنمّر شائع جدًّا في المدارس ويسبّب أذى كبيرًا، وأحيانًا قد يعمد بعض التلاميذ إلى عدم ارتياد المدرسة، أو حتّى محاولة إيذاء أنفسهم وربّما الانتحار في بعض الحالات

كتب إيلي صرّوف لـ”هنا لبنان”:

علميًّا، هو “الإيذاء المتكرّر والمتعمَّد لشخصٍ أو مجموعةٍ من قبل شخصٍ أو مجموعةٍ أخرى، حيث تتضمّن العلاقة خللًا في توازن القوى. يمكن أن يكون جسديًّا أو لفظيًّا أو نفسيًّا، وقد يَحدُث وجهًا لوجهٍ أو عبر الإنترنت”، بحسب “تحالف مكافحة التنمّر” (Anti-Bullying Alliance) في بريطانيا. أمّا واقعيًّا، فهو مخرزٌ مدبّبٌ قد يترك ندوبًا نازفةً في الأذهان أو الأرواح أو حتّى في اللّاوعي، تُترجَم في الأفكار والسّلوكيّات؛ وقد تعجز صفحات الزّمن عن بلسمتها.

مؤخّرًا، أصبح مصطلح التنمّر (Bullying) أكثر شيوعًا ورواجًا، على الرغم من أنّه ظاهرةٌ اجتماعيّةٌ لا بل مشكلة تعود لسنواتٍ طويلة وتتّخذ أشكالًا مختلفة، وقد استخدمه الباحث النّرويجي دان أولفيوس (Dan Olweus) للمرّة الأولى كمفهومٍ علميٍّ مستقلٍّ في سبعينيّات القرن الماضي. ومع ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، وتزايد حالات المضايقات عبر الإنترنت، بدأ مصطلح “التنمّر الإلكتروني” ينتشر في الدّراسات والأبحاث، بعدما تأكّد أنّ التنمّر لا يقتصر على التفاعلات المباشرة وجهًا لوجه، بل يمكن أن يحدث عبر الوسائط الرّقميّة أيضًا.

وهذه الظّاهرة المؤذية الّتي قد تتشابه بعض سماتها مع تلك الموجودة في الجرائم، تنال من كرامة الإنسان وتهدّد أمنه النّفسي والاجتماعي. وقد تُسبّب اضطراباتٍ نفسيّةً مثل القلق والاكتئاب والانعزال الاجتماعي، أو قد تؤدّي إلى تراجع الأداء الدّراسي أو المهني، إضافةً إلى تأثيراتها السّلبيّة في الصّحة الجسديّة بسبب التوتر المزمن.

على عكس الولايات المتحدة الأميركيّة، بريطانيا، كندا، أستراليا والهند… لا يوجد في لبنان بعد قانونٌ مستقلٌّ وصريحٌ لتجريم أو مكافحة التنمّر، على الرغم من أنّ نسبة الأشخاص الّذين تعرّضوا لأحد أشكاله المتعدّدة مرتفعة.

ففي عام 2018، أجرت منظّمة “أنقذوا الأطفال – Save the Children” دراسةً وطنيّةً بعنوان “التنمّر في المدارس والمجتمعات المحليّة في لبنان”. وقد خلصت إلى أنّ طفلًا من كلّ اثنين من الأطفال اللّبنانيّين والسّوريّين والفلسطينيّين المشاركين في دراستها، قد تعرّض للتنمّر في مرحلةٍ ما، وأنّ 90% من الحالات وقعت في المدرسة.

في المقابل، نُشرت دراسةٌ في مجلّة “BMC Pediatrics” العلميّة عام 2020، أظهرت أنّ 49.9% من المراهقين اللّبنانيّين الّذين شملتهم الدّراسة تعرّضوا للتنمّر.

هذه المؤشّرات والأرقام المقلقة الّتي تعكس مدى انتشار التنمّر في المجتمع اللّبناني، خصوصًا داخل المدارس، تؤكّد الحاجة إلى إطلاق حملات توعية شاملة، وسَنّ قوانين فعّالة، والأهمّ إقرار سياسات وبرامج وقائيّة جدّيّة للتصدّي لهذه الظّاهرة المتفاقمة؛ ولحماية المواطنين ولا سيّما الأطفال والنّساء وذوي الاحتياجات الخاصّة.

من هذا المنطلق، تقدّم النّائب هاكوب ترزيان من مجلس النّواب في 20 آب الماضي، باقتراح قانون يرمي إلى “تجريم التنمّر، من خلال إدراجه ضمن الباب المتعلّق بالجرائم الواقعة على الحرّيّة والشّرف، بما يضمن تعزيز الحماية القانونيّة، وتفعيل الرّدع، وتجسيد التزام الدّولة بحماية كرامة الإنسان وسلامته النّفسيّة”.

الكرامة النّفسيّة أساسيّة!

هذا الاقتراح المثير للجدل نسبيًّا، لاقى ترحيبًا لا سيمّا من قبل جهاتٍ أهليّة وتربويّة واجتماعيّة، لكنّه قوبل أيضًا باعتراضاتٍ من قبل أطرافٍ اعتَبرت أنّ هناك ملفّات أكثر أهميّةً وإلحاحًا تستدعي التشريع. في هذا الإطار، ترى الأخصائيّة في علم النّفس العيادي ريتا كرم، لـ”هنا لبنان”، أنّ “إقرار قانونٍ يُجرّم التنمّر في لبنان له أهميّة نفسيّة بالغة. فالتنمّر ليس مجرّد سلوكٍ عدائيٍّ عابر، بل هو عامل مؤذٍ يترك بصماتٍ عميقةً على صعيد تقدير الذّات والصّحة النّفسيّة والإحساس بالأمان”.

وتشير إلى أنّ “وجود قانونٍ واضحٍ يتعلّق بالتنمّر يُشكّل أوّلًا حمايةً مباشرةً للضّحايا، ويمنحهم شعورًا بأنّ معاناتهم معترَف بها وجدّيّة، ما يشجّعهم على طلب المساعدة والتعبير عن مشاعرهم بدل الصّمت. وثانيًا، هو رسالة قويّة للمجتمع بأنّ العنف النّفسي ليس مقبولًا بأيّ شكل من الأشكال، وهذا يُسهم في تغيير الثّقافة السّائدة والانتقال نحو بيئةٍ آمنةٍ يسود فيها الاحترام”.

وتلفت كرم إلى أنّه “من النّاحية العياديّة، نعلم أنّ ضحايا التنمّر معرّضون للاكتئاب، القلق، العزلة، وأحيانًا لأفكارٍ انتحاريّة. القانون هنا يعمل كآليّةٍ وقائيّةٍ تحدّ من انتشار هذه الاضطرابات على المدى البعيد، ويعزّز الصّحة النّفسيّة الجماعيّة عبر نشر الوعي”.

وتشدّد على أنّ “إقرار قانونٍ يجرّم التنمّر ليس إجراءً قانونيًّا فحسب، بل هو كذلك خطوة علاجيّة ووقائيّة لحماية الصّحة النّفسيّة، ولدعم مسار الأفراد نحو نموٍّ أكثر أمانًا واستقرارًا على الصّعيد النّفسي. كما أنّه يوفّر فسحة أمانٍ أكبر للأطفال والمراهقين، يساعد على تخفيف القلق والاكتئاب النّاتج عن التنمّر، ويوجّه رسالةً واضحةً: الكرامة النّفسيّة حقّ أساسي”.

ضبابيّة حول الآليّات التطبيقيّة

قانون العقوبات اللّبناني يشمل جرائم مثل القدح والذّمّ والتحقير، الّتي تتقاطع في بعض خصائصها وجوانبها مع سلوكيّات التنمّر، لكنّ الأخير تحدّده عناصر لا يتناولها النّصّ الجزائي الحالي، منها: التكرار، استغلال العلاقة غير المتوازنة، والأذى النّفسي والمعنوي والاجتماعي. من هنا ضرورة عدم خلط المفاهيم، فالانتقاد البنّاء، السّخرية الخفيفة أو المزاح المتبادل إذ لم يكن جارحًا أو متكرّرًا، الخلافات العابرة، والتصرّفات الّتي لا تنطوي على نيّةٍ مقصودةٍ للإيذاء… ليست تنمّرًا أو تحقيرًا.

هذا ما تؤكّده أيضًا دكتورة العلوم الاجتماعيّة بولا عاقوري، إذ توضح لـ”هنا لبنان” أنّه “لإطلاق تسمية تنمّر على الفعل المقترَف، يجب أن يكون متكرّرًا ومؤذيًا، وليس أيّ نوع من المزاح على سبيل المثال يُعتبر تنمّرًا”.

وتركّز على أنّ “إقرار هكذا قانون قد يكون رادعًا ويؤدّي إلى تخفيف حالات التنمّر المرتَكبة، لأنّه يُظهر أنّ الأفعال ستلقى محاسبةً”، مُبيّنةً أنّ “التنمّر شائع جدًّا في المدارس ويسبّب أذى كبيرًا، وأحيانًا قد يعمد بعض التلاميذ إلى عدم ارتياد المدرسة، أو حتّى محاولة إيذاء أنفسهم وربّما الانتحار في بعض الحالات”.

هذا الاقتراح لا يزال يحتاج إلى آليّاتٍ تطبيقيّةٍ واضحة، لا سيّما أنّه يطال مختلف شرائح وفئات المجتمع. هنا تطرح عاقوري إشكاليّاتٍ أساسيّةٍ، منها: “كيف سيتمّ تطبيق هكذا قانون في المدارس؟ كيف سيتمّ تجريم القاصرين؟ وما الآليّة المعتمَدة لتثبيت فعل التنمّر في المجتمع بشكل عام، في حال لم تكن هناك دلائل حسّيّة أو عوارض تؤكّد تعرّض شخص ما للتنمّر؟”.

بحسب اقتراح القانون، “يُعاقَب كلّ من أَقدم على التنمّر بالحبس من ستّة أشهرٍ إلى سنتين، وبغرامةٍ ماليّةٍ تتراوح ما بين ثلاثة أضعاف وعشرة أضعاف الحدّ الأدنى الرّسمي للأجور، أو بإحدى هاتين العقوبتَين”. لكنّ هذه التفاصيل ستحدّدها اللّجان النّيابيّة الّتي سيُحال إليها المشروع لمناقشته وبلورة صيغته النّهائية، قبل طرحه على الهيئة العامّة لإقراره. فهل سيبصر قانون تجريم التنمّر النّور، أم سيقبع منسيًّا في أدراج البرلمان؟!.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us