“الباش” في ذاكرة رفاقه… حكايات من القلب تُروى للمرة الأولى!


خاص 13 أيلول, 2025

قتلوه لأنّه حمل دولةً في قلبه، فيما كانوا يتقنون صناعة الدويلات، وأسكتوا صوته لأنّه صدح بالحقيقة، والحقيقة تُرعبهم… خافوه لأنّه لم يكن ابن تسوية، بل ابن قضية… أرادوه مجرّد سطرٍ عابرٍ في كتاب الحرب، فإذا به يتحوّل إلى فصلٍ ناصعٍ في كتاب الرّجاء، وإلى شاهدٍ دائمٍ على وطنٍ قُتل مرارًا لأنه أنجب رجلًا أراد أن يُحييه.

كتبت كارين القسيس لـ”هنا لبنان”:

يبقى الرئيس “القائد” بشير الجميّل في وجدان اللّبنانيين رمزًا خالدًا وعلامةً لا تُمحى، متجذّرًا في أعماق تاريخ الوطن، ومتجاوزًا الخلافات السياسيّة والانتماءات الحزبيّة التي قد تفرّق بين أنصاره في حاضر اليوم، سواء كان انتماؤه إلى “القوات اللبنانية” أو “الكتائب”.

بقي “البشير”، ذلك “الرئيس” الذي احتضنه المسيحيون كحلمٍ تحقّق، وقائدًا تميّز بقدرته الفريدة على الجمع بين الهيبة والكاريزما والحضور القويّ، فلم يكن مجرّد ابن عائلةٍ سياسيّةٍ فحسب، بل صوتًا وصخرة أمل، اذ استُشهد تاركًا فراغًا عميقًا وألمًا لا يزال نابضًا في قلب البيئة المسيحيّة، حيثُ إنّ كلماته، حتّى اليوم، لا تزال نبراسًا يُنير دروب من آمنوا بقضيته، فقد عشق اللبنانيون هذا الرجل عشقًا جعله خالدًا في ذاكرة لبنان، واحتفظوا في صدورهم بوهمٍ جميلٍ دام لسنوات، حلموا خلاله بأنّ “بشير” لا يزال حيًّا، يواصل مسيرته من وراء ستار الزمان والمكان.

قليلون القادة الذين استطاعوا أن يعبروا بسرعة البرق من ساحة المعركة إلى عتبة الدولة، ويجمعوا في شخصهم بين صرامة الميدان وهدوء رجل الدولة، بين بريق الكاريزما وحدّة القرار، وبين الغضب المشروع من واقعٍ فُرض عليه، والحلم الكبير بدولة حديثة، وعادلة، وقويّة للجميع، ففي زمنٍ عصف فيه لبنان بالاحتلالات والخيبات والانقسامات الطائفية الحادّة، برز “الباش” كقياديّ شابّ استثنائيّ، لم يُشبه أحدًا من أبناء جيله، أحبّه البعض بجنون، وهابه آخرون، ورفضه كثيرون، لكن لم يستطع أحد إنكار حضوره الطاغي وتأثيره المتصاعد، ورؤيته المتقدّمة بأشواط على عمره وتجربته.

رُويت عنه الكثير من الحكايات، لكن الحديث يبقى ناقصًا، فثمّة أسرار وقصص تنتقل عبر الأجيال، لا يدركها إلاّ من عاشوا تفاصيلها وعاصروا أيّامها عن قرب، وفي هذا الإطار، جمعت “هنا لبنان” شهادات المقرّبين منه، ومن رافقوا خطواته ومسيرته، لتكشف لنا جوانب لم تُروَ بعد من سيرته وحياته.

يروي الدكتور فؤاد أبو ناضر، الرئيس الأسبق لحزب “القوات اللبنانية”، أنّ معركة زحلة في الثاني من نيسان 1981 كانت لحظةً فاصلةً في حياة بشير، إذ دخلها قائدًا ميليشياويًا، لكنّه خرج منها رجل دولةٍ ومرشّحًا طبيعيًا لسدّة الرئاسة، فقد بدأ اللبنانيون ينظرون إليه كمرجعيّة وطنيّة تشمل لبنان بأسره، لا تقتصر على طائفته أو المناطق الحاضنة فقط، وبالتالي فقد أثبت خلالها قدرةً فريدةً على إدارة معركة عسكرية، وتحريك شعب، وخوض مفاوضات سياسية دقيقة، ما يجعله حالةً نادرةً في الساحة السياسية اللبنانية.

ويضيف: “عندما دخل بشير تلك المعركة، لم يكن مدعومًا من أحد، فالأميركيون كانوا ضدّه، واعتبروه مجرّد قائد ميليشيا، فيما اتّهمه الإسرائيليون بأنّه افتعل معركة زحلة لاستدراجهم إلى حربٍ ضد الجيش السوري، وهو ما لم يكن ضمن أهدافهم داخل لبنان، أمّا على أرض الواقع، فكان معظم اللبنانيين غير مدركين تمامًا لحقيقة ما يجري”.

ويتابع أبو ناضر: “بعد انتهاء المعركة، تبيّن أنّ “القوات” كانت في أمسّ الحاجة إلى غطاء وستر، إذ لم تكن تمتلك العدّة الكافية، لا من حيث العناصر، ولا من حيث الذخائر والعتاد، ومع ذلك، استطاع البشير أن يقود المعركة ويُحقّق التوازن، لا بالسلاح فقط، بل بالرؤية السياسيّة التي حملها إلى ما بعد الجبهات”.

من وجهة نظر أبو ناضر، “كانت معركة زحلة اللحظة التي انطلق منها “بشير الجميّل” كرجل دولة، لا كرئيس حزبٍ أو قائدٍ عسكريّ، بل كمشروعٍ وطنيّ بدأ يلقى قبولًا لدى فئات واسعة من اللبنانيين، خصوصًا في أوساط المسلمين الذين كانوا يشعرون بثقل الاحتلال السوري وهيمنته على البلاد”.

ويختم أبو ناضر حديثه: “خلال واحد وعشرين يومًا، أصرّ “الباش” على زيارة كلّ ثكنة من ثكنات “القوات”، ليتحدّث مباشرة مع المقاتلين، ويوجّه إليهم رسالتَيْن واضحتَيْن: الأولى، أنكم عائدون إلى مناطق جديدة مُحرّرة، ويُمنع عليكم المساس بأيّ رمز من رموز الخصم، سواء أكان نصبًا تذكاريًا أم اسم شارع يحمل اسم شهيد، فكما لديكم شهداء، كذلك لخصومكم شهداؤهم، وكلّهم استُشهدوا لقضايا آمنوا بها، وواجبنا أن نحترم تضحيات الجميع، ولو كانوا خصومًا. أمّا الرسالة الثانية، فكانت أنّ عليهم أن يكونوا قدوةً ومثالًا يُحتذى بهم، إذ إنّهم مميّزون بتدريبهم وانضباطهم، لكن ما يجب أن يميّزهم أكثر هو أخلاقهم، لأنّ صورتهم ستنعكس عليه شخصيًا، وإن نجحوا في تمثيله بصورة مشرّفة، فسيقول معظم الشعب اللبناني إنّ رجاله على هذا المستوى، وبالتالي، هو أهلٌ لإدارة الدولة”.

بدوره، يتحدّث إيلي أبي طايع، القيادي في “القوات اللبنانية”، الذي رافق بشير عن قرب، ولا يزال إلى جانب رئيس الحزب الحالي الدكتور سمير جعجع، عن صفاتٍ نادرةٍ امتلكها “القائد”، بدءًا بالكاريزما التي منحها الله له، وصولًا إلى خطابه الذي ما زال يلامس واقع اللبنانيين حتى يومنا هذا.

ويروي حادثةً حصلت خلال اجتياح عام 1982، حين دمّر قصف إسرائيلي مبنًى تابعًا للفلسطينيين في منطقة الناعمة، وكان المبنى، المؤلف من أربعة إلى خمسة طوابق، قد انهار بالكامل، إذ إنّ تحت الركام كانت توجد سراديب تحتوي على نوعٍ من الذخائر غير المعروفة، تُشبه قذائف الـ”ب.7″ مصدرها من الروس، ولم يكن الأميركيون قادرين على تحديد طبيعتها ولا فعّاليتها، عندها أصرّوا على الحصول على نماذج منها للتحليل، فكُلّف أبي طايع مع عناصر من “الشعبة الرابعة” بتنفيذ المهمة، وبعد أسبوع من العمل تحت الأنقاض، وبمخاطر حقيقيّة، نجح الفريق في الدخول إلى قلب المبنى المُهدّم، واستخراج الذخائر، باستخدام أدوات خاصة أُحضرت من “المارينا” في ضبية عبر جوزيف خوري، المعروف بـ”عمّو جوزيف”، وعند نهاية المهمّة، تمّ إرسال الذخائر إلى بشير، وتبيّن أنها تشبه قذائف الـ”ب.7″ من حيث الشكل والسرعة، ولكن بفعّالية مختلفة.

ويُضيف: “كانت عمليّة محفوفة بالمخاطر، لكنها نُفذت لأنّ “الباش” طلب ذلك، وكانوا مستعدّين لتنفيذ ما يطلبه، مهما بدا مستحيلًا”.

وفي حادثةٍ أخرى، يتحدّث القيادي “القواتي” عن اتصالٍ تلقّاه من بشير، طلب منه أن يلتقيه على جسر نهر الكلب، مزوّدًا بوزن دبابة وعرضها وطولها، وعند وصوله، وجد عددًا من المهندسين، بينهم “عمّو جوزيف”، وجان بسمرجي، وموني عرب، فطلب بشير منهم دراسة إمكانيّة إنشاء جسر يربط منطقة كسروان بزكريت، لتخفيف الضغط عن نفق نهر الكلب، وليكون طريقًا بديلًا جاهزًا عند الحاجة العسكرية. واللّافت أنّ الجسر آنذاك لم يكن قادرًا على تحمّل وزن دبّابة واحدة، فطلب بشير أن يُصمَّم الجسر بحيث تمر عليه دبابتان: واحدة للعبور، وأخرى للاحتياط في حال وقوع طارئ.

ومن وجهة نظر أبي طايع، هذه الواقعة تُثبت أنّ البشير لم يكن يُفكّر في المعركة فقط، بل كان يُفكّر في الدولة، وفي البنية التحتية، وفي كيفية تحويل التحدّيات الأمنية إلى فرصٍ لفرض منطق الدولة.

ويُتابع: “التنظيم والانضباط من الثوابت الرئيسيّة عند بشير، فبعد انتخابه رئيسًا للجمهورية، اقترح توحيد الزيّ الرسميّ لموظفي الدولة، من دون جيوب، حتى لا تُستغلّ في الرشوة أو في حمل ما لا يجوز”. ويذكر أبي طايع أنّ بشير زار يومًا سرايا منطقة الجديدة في وقتٍ مبكرٍ من الصباح، فاستقبله عنصر من قوى الأمن الداخلي بلباس النوم، وآخر بالـ”فانيلّا” الداخلية، سأله عن الموظّف المعني، فأجابه الحاضرون أنّه لم يصل بعد، على الرَّغم من أن الدوام الرسمي يبدأ الساعة الثامنة، عندها بعث بشير برقيةً إلى المدير العام لقوى الأمن الداخلي، وجرى نقل الموظّف إلى الجنوب، وفي اليوم التالي، حضر جميع الموظفين والضبّاط في الوقت المحدّد، من دون أي تأخير.

ويختم أبي طايع كلامه: “كان بشير يعي جيدًا أنّ السلطة لا تقوم على المجاملة، وأنّ الهيبة تُبنى بالفعل والانضباط، فلم يُؤمن يومًا بالواسطة، بل كان يعتبر أنّ أفعال الإنسان وحدها هي التي توصله، والأهمّ من كل ذلك، أنه كان متواضعًا، إذ لم يكن يبيت في قصر بعبدا، بل كان يسهر حتى وقتٍ متأخرٍ، ويعود إلى منزله في بكفيا أو الأشرفية”.

قتلوه لأنّه حمل دولةً في قلبه، فيما كانوا يتقنون صناعة الدويلات، وأسكتوا صوته لأنّه صدح بالحقيقة، والحقيقة تُرعبهم… خافوه لأنّه لم يكن ابن تسوية، بل ابن قضية… خافوه لأنه لم يشترِ، ولا يُشترى، لأنّه كان أكبر من أن يُروَّض، وأصلب من أن يُكسَر… أرادوه مجرّد سطرٍ عابرٍ في كتاب الحرب، فإذا به يتحوّل إلى فصلٍ ناصعٍ في كتاب الرّجاء، وإلى شاهدٍ دائمٍ على وطنٍ قُتل مرارًا لأنه أنجب رجلًا أراد أن يُحييه.

من أراد أن يطوي صفحة “القائد”، فليراجع التاريخ جيدًا، فبعض الصفحات لا تُطوى، وبعض الرجال لا يُغتالون، لأنّهم ببساطة كتبوا أسماءهم بدمهم على أبواب الوطن، لا على دفاتر السياسة “الرخيصة”.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us