من “تكسير راس” إسرائيل إلى “تكسير” صخرة الروشة!

“الحزب” الذي يقف اليوم عاجزًا تمامًا عن مواجهة إسرائيل، يجد أن سبيله الوحيد لإثبات الوجود هو “المراجل” على اللبنانيين والدولة اللبنانية، ربما لاعتقاده أنّ السلاح الذي لم يعد يُخيف إسرائيل سيبقى نافعًا في إخافة اللبنانيين حتى إشعار آخر.
كتب طوني عيسى لـ”هنا لبنان”:
إلى أين يتجه “حزب الله” اليوم؟ في ذكرى عام على الحرب المُريعة التي تسبّب بها، يتذكّر اللبنانيون كم طالبوه، على مدى 11 شهرًا، بأن يتجنّب التحرّش بإسرائيل على الحدود، وبأن ينأى بنفسه عن حرب غزّة، حتى لا يجلب الكوارث إلى لبنان. ولكن، يومذاك أطلق السيد حسن نصرالله وعده الشهير: لن نوقف دعمنا لغزّة مهما كلّفنا ذلك من أثمان.
كان “الحزب” يظنّ أن إسرائيل لن تجرؤ على فتح حرب واسعة على لبنان، لأنّها محشورة في غزّة، ولأنها لا تحظى بتغطية أميركية وغربية. وكان يعتقد أنّ أقصى ما يمكن أن تقوم به هنا، هو شنّ ضربات محدودة على الحدود. ولم يكن يصدّق التهديدات التي يُطلقها أركان الحكومة الإسرائيلية بشنّ حرب واسعة مدمّرة على لبنان.
لكن ما جرى كان صادمًا له. فقد نفّذت إسرائيل تهديدها بالكثير من القسوة. دمَّرت شريطًا حدوديًا كاملًا، وهي تمنع إعادة إعماره ورجوع الناس إليه، وحطمت جزءًا وازنًا من ترسانة “الحزب” الصاروخية، وقتلت المئات أو الآلاف من عناصره وكوادره، بدءًا من عمليتَيْ “البيجر” والاتصالات اللاسلكية وصولًا إلى عمليات التصفية شبه اليومية للكوادر في الجنوب والمناطق الأخرى. والأهم هو تصفية نصر الله وخليفته وسواهما من القادة الكبار. ولم يوقف الإسرائيليون غاراتهم العنيفة، من الجنوب إلى البقاع فالضاحية الجنوبية، إلّا بعدما وقّع الحزب من خلال حكومته، حكومة نجيب ميقاتي، على اتفاقٍ لوقف النار في 27 تشرين الثاني 2024، ينصّ حرفيًا على “نزع السلاح” وتسليمه إلى الدولة. ما يعني نهاية “الحزب” كتنظيم عسكري وتحوّله حزبًا سياسيًا “طبيعيًا”.
ولا يمكن هنا نسيان الخسارة الكبرى التي ألمّت بـ”الحزب” بعد أيام قليلة من اتفاق تشرين، وهي سقوط نظام بشار الأسد، وتولّي أحمد الشرع زمام السلطة في دمشق، ومسارعة إسرائيل إلى شنّ غارات جوية مكثفة دمّرت مخازن النظام وإيران و”الحزب”، ومعها المراكز والقواعد العسكرية، من شمال سوريا إلى جنوبها. فانقطعت طريق التسليح -والتمويل إلى حدٍّ بعيدٍ- من إيران إلى لبنان.
وبعد ذلك، تمكَّن اللبنانيون من إنهاء فراغٍ في موقع الرئاسة الأولى دام طويلًا، واضطرّ “الحزب” إلى النزول عن سقف التصعيد واشتراط أن يصل إلى الحكم رئيسٌ حليف له. فتمّ انتخاب الرئيس جوزاف عون رغمًا عن “الحزب”، بخطاب القسَم التاريخي المعروف. واستُكمل المشهد بتكليف نوّاف سلام تشكيل حكومة لا يمتلك فيها “الحزب” القدرة على التعطيل أو فرض القرارات. وقد ظهر ذلك في ما صدر عنها في 5 و7 آب.
لكنّ المثير هو أن “الحزب” لم يُجرِ أي مراجعة حقيقية طوال العام الفائت، وعلى العكس، هو يحاول التهرّب من الالتزامات التي تعهّد بها أمام إسرائيل والولايات المتحدة. وقد نجح نسبيًا في رمي كرة النار على الدولة. فالمسؤولون الإسرائيليون يوجهون انتقاداتٍ إلى حكومة لبنان، على خلفيّة أنها لا تفعل شيئًا سوى “الحكي”. وهذا موقف الأميركيين أيضًا. وقد عبّر عنه توم باراك بشكلٍ صارخٍ أخيرًا، معلنًا التبنّي الكامل للموقف الإسرائيلي.
لكن لبنان الرسمي الذي أبدى الامتعاض من التعابير القاسية الواردة في كلام باراك، لم يكلّف نفسه المناقشة في مدى صحة ما يقوله، أي: هل يلتزم “حزب الله” فعلًا ببند الاتفاق الذي ينصّ على تسليم سلاحه إلى الدولة أم يرفضه وسيتصدّى له حتى النهاية؟ وتاليًا، هل إنّ وعد الحكومة اللبنانية بحصر السلاح بها سينفذ عمليًا أم سيبقى مجرّد “حكي” كما أوحت للبعض قراراتها يوم 5 أيلول؟ وهل ستلتزم الدولة بما تعهد به عون وسلام، اللذان بذل الأميركيون والعرب كل جهد لتأمين وصولهما إلى موقعيهما، أم إن ما يبذله الوسطاء الأميركيون من جهود في بيروت سيبقى مضيعةً للوقت؟ ولماذا يضيّعون الوقت في بيروت إذا كانوا قادرين على ملء الوقت بالوساطات التي تثمر اتفاقات أمنية باتت وشيكة بين سوريا وإسرائيل؟
اليوم “حزب الله” عاجز تمامًا عن رمي حجر على إسرائيل، ولا يمكنه إطلاقًا أن يردّ على عملياتها التي لا تتوقف. فأين أصبح تهديده باستمرار حرب المشاغلة دعمًا لغزة، مهما كلّف ذلك من أثمان؟
الحكماء والمخلصون توقعوا باكرًا ما حصل. وقد بُحَّت أصواتهم وهم يطالبون “الحزب” بالتراجع عن النهج الخطأ لأنهم كانوا يتوقعون النتيجة. لكنّهم قوبلوا بالغوغائية والجهل والتجاهل والمزايدات الفارغة، وبعض المعنيين لم يتغيّر… حتى الآن.
في مراجعةٍ بسيطةٍ: أين كان “الحزب” بقدراته وموقعه ونفوذه، وأين أصبح اليوم؟ ألا يخرج أحد منه ويعلن صراحة أنّه كان على خطأ، ولو لمرّة، وأنّ الآخرين على صواب، كما اعترف نصر الله بخطأ الحرب في تموز 2006، وقال: “لو كنتُ أعلم!”. تُرى لو كان هو على قيد الحياة، هل كان سيقولها مجدّدًا؟
لكنّ “الحزب” الذي يقف اليوم عاجزًا تمامًا عن مواجهة إسرائيل، يجد أن سبيله الوحيد لإثبات الوجود هو “المراجل” على اللبنانيين والدولة اللبنانية، ربما لاعتقاده أنّ السلاح الذي لم يعد يُخيف إسرائيل سيبقى نافعًا في إخافة اللبنانيين حتى إشعار آخر. وهذا السلوك كارثي لأنه سيتسبّب بارتكاب خطأ في الداخل أكثر فظاعةً من خطأ الحرب مع إسرائيل.
في ذكرى عام على الحرب، خفّض “الحزب” من سقف طموحاته. فهو كان يريد “تكسير راس” إسرائيل، وبات اليوم يعتبر أن انتصاره الكبير يكون “تكسير” صخرة الروشة، بما ترمز إليه.
“صخرة الروشة”. هل من أحد يقول لـ”الحزب” إنّها ليست الرمزية المناسبة لمساره المقبل؟.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() هل نُصدّق تهديد إسرائيل هذه المرة؟ | ![]() القطبة المخفية: سيناريو “السلاح الصدِئ” | ![]() اسحبوا أيديكم.. وليتحمل “الحزب” مسؤولية توقيعه! |