طوابير أمام محال الذهب: الأونصات ملاذ اللبنانيين الأخير

الذهب بالنسبة للبنانيين اليوم لم يعد رمزاً للترف أو الزينة، بل أصبح أشبه بتأمين مالي ضد المجهول. وفي بلد يعيش على وقع أزمة اقتصادية عميقة بلا أفق واضح، يبدو أنّ بريق المعدن الأصفر هو آخر ما يمكن للناس الاعتماد عليه للحفاظ على قيمة مدّخراتهم
كتبت ناديا الحلاق لـ”هنا لبنان”:
طوابير طويلة تصطفّ أمام محال الذهب في مختلف المناطق اللبنانية، في مشهد يعكس الإقبال الكبير على شراء أونصات وسبائك الذهب الخام. المواطنون ينتظرون دورهم لاقتناء الذهب، الذي أصبح خياراً استثمارياً موثوقاً للكثيرين في ظل الظروف الاقتصادية الحالية.
يقول أحد تجار الذهب في بيروت إنّ الطلب على المعدن الأصفر «غير مسبوق»، موضحاً أنّ الناس لم تعد تشتري الذهب للزينة كما في السابق، بل كخيار ادّخاري يحميهم من تقلبات الأسواق. ويضيف: «الطلب يتركز على الأونصات الصغيرة لأنها سهلة التخزين والبيع. كثيرون يشترونها بالدولار النقدي، وغالباً من دون تردد».
أمام مشهد الطوابير أمام محال الذهب وارتفاع الطلب غير المسبوق، يطرح اللبنانيون سؤالًا مشروعًا: إلى أين تتّجه الأسعار؟ وهل الذهب حقًا هو الملاذ الآمن الأخير؟
محمد فحيلي، الباحث المقيم في كلية سليمان العليان لإدارة الأعمال (OSB) في الجامعة الأميركية في بيروت (AUB)، يرى أنّ هذا التوجه يعكس تحوّلاً تدريجياً في السلوك المالي للبنانيين، قائلاً: “نحن نعيش مرحلة جديدة من التفكير المالي. انتقل اللبناني أولاً من الليرة إلى الدولار، ثم من الحسابات المصرفية إلى الخزائن المنزلية، واليوم نراه ينتقل من الدولار إلى الذهب. هذا التحول ليس صدفة، بل نتيجة تراكم انعدام الثقة بالبلد”.
ويضيف فحيلي أنّ المخاوف العالمية أيضاً تلعب دوراً في هذه الظاهرة، موضحاً أنّ «الارتفاع الكبير في أسعار الذهب لا يمكن فصله عن السياسات التي انتهجتها الخزانة الأميركية خلال السنوات الماضية». ويشرح: العقوبات التي فرضتها الخزانة الأميركية على مصارف مركزية وكيانات في دول مثل روسيا، إيران، العراق وسوريا، خلقت خوفاً عالمياً لدى المصارف المركزية الأخرى من إمكانية تعرضها لعقوبات مماثلة، خصوصاً بعد تأسيس مجموعة “بريكس” التي تضم روسيا وعدداً من الدول التي تسعى لتقليل اعتمادها على الدولار. هذا ما دفع العديد من البنوك المركزية إلى استبدال جزء من احتياطاتها بالدولار إلى احتياطات من الذهب، وهو ما شكّل المحرك الأساسي وراء الارتفاع الجنوني في أسعار الذهب عالمياً».
ويشير فحيلي إلى أنّ “صناديق الاستثمار والمؤسسات الخاصة حول العالم انضمت إلى موجة الشراء هذه، وإن كانت ملكية القطاع الخاص تبقى محدودة مقارنة بالمصارف المركزية.
ويقول: “المصارف المركزية تشتري الذهب كاحتياطي استراتيجي طويل الأجل، بينما تشتري صناديق الاستثمار بهدف المضاربة والربح السريع. أما الأفراد، فبينهم من يسعى لحماية قدرته الشرائية في مواجهة التضخم، ومنهم من يراهن على ارتفاع الأسعار لتحقيق مكاسب».
ويحذر فحيلي من أنّ هذا السلوك العالمي قد يؤدي لاحقاً إلى ضغوط بيعية عندما يبدأ المستثمرون بتحقيق الأرباح، «كل من اشترى الذهب بهدف الربح سيأتي وقت يريد فيه البيع لتحقيق مكاسبه، ما سيخلق ضغطاً على الأسعار. وقد شهدنا خلال الأيام الماضية بعض الجمود والانخفاض الطفيف نتيجة عمليات جني الأرباح».
أما في الداخل اللبناني، فيرى فحيلي أنّ الإقبال الكبير على شراء الذهب يعكس حالة خوف متجذرة، ويقول: اليوم اللبناني يشتري الذهب كوسيلة للاحتفاظ بقيمة أمواله. سلوك الناس هنا مفهوم تماماً، ولا يشتري اللبناني الذهب للمضاربة، بل للحفاظ على القيمة وشراء شعور بالاستقرار المالي».
لكن فحيلي يلفت إلى جانب بالغ الأهمية، محذراً من مخاطر سوق الذهب المحلية: “قلة قليلة من المواطنين تملك القدرة على فحص الذهب ومعرفة جودته. وفي ظل غياب الرقابة الفعلية على السوق، قد يتعرض البعض لعمليات غش أو احتيال. من الضروري أن يشتري الناس الذهب فقط من متاجر موثوقة ومرخصة. السوق اليوم مفتوحة على مصراعيها، وهناك من يستغل هذه الفورة لبيع ذهب غير مطابق للمواصفات».
ويتوقف فحيلي عند نقطة حساسة تتعلق بمخاطر عالمية موازية، فيقول:”اليوم هناك ديون مترتبة على الذهب تفوق قيمته الحقيقية بأضعاف، تماماً كما حدث في أزمة الرهن العقاري عامي 2008 و2009، حين تجاوزت الديون العقارية قيمة الأصول الفعلية. هذا يشكّل خطراً على الأسواق المالية العالمية، لكن الفرق الآن أنّ أغلب حاملي الذهب هم مصارف مركزية، وهؤلاء لا يُتوقع أن يبيعوا احتياطاتهم في المدى المنظور، مما يجعل احتمالية حدوث أزمة مشابهة لتلك التي وقعت عام 2008 ضعيفة».
ومع ذلك، يرى فحيلي أنّ «احتمال حدوث تصحيح في الأسعار وارد جداً، لأن أسعار الذهب الحالية تجاوزت القيمة الحقيقية للذهب ولا تعكس الأساسيات الاقتصادية الواقعية. لذا من الممكن أن نشهد حركة تصحيحية في أي لحظة، لكن من الصعب جداً توقع توقيتها بدقة».
في المحصلة، الذهب بالنسبة للبنانيين اليوم لم يعد رمزاً للترف أو الزينة، بل أصبح أشبه بتأمين مالي ضد المجهول. وفي بلد يعيش على وقع أزمة اقتصادية عميقة بلا أفق واضح، يبدو أنّ بريق المعدن الأصفر هو آخر ما يمكن للناس الاعتماد عليه للحفاظ على قيمة مدّخراتهم.