بيروت بين السمّ والحدائق: قاتل القطط ينشر الموت بصمت!

العقوبات الواردة في القانون 47 تتعلّق في معظمها بالمخالفات المرتبطة بالمنشآت كالملاجئ أو السيرك، بينما غابت عنها العقوبات الخاصة بجرم القتل أو الإيذاء المباشر للحيوان، لذلك يبقى النص القانوني الحالي قاصرًا عن تحقيق الردع المطلوب.
كتبت ناديا الحلاق لـ”هنا لبنان”:
في قلب بيروت، حيث تختلط رائحة القهوة بنبض الحياة اليومية في شوارع فردان والحمرا والروشة، تدور مأساة صامتة لا يراها الكثيرون. بين الأرصفة المزدانة بالمقاهي والحدائق التي يُفترض أن تكون ملاذًا للهدوء، يسير رجل مجهول الهوية حاملًا في يده طعامًا مسمومًا يستدرج به القطط الجائعة، يُطعمها بملامح وديعة، ثم يتركها تموت ببطء قبل أن يدفن أجسادها الصغيرة في تراب الحدائق العامة المجاورة.
إنّها جريمة لا تحمل صوت رصاص ولا تترك خلفها دماء على الجدران، لكنّها تحمل قسوةً لا توصف، تتسلّل في عتمة الليل لتسلب حياة مخلوقات بريئة لا تملك سوى نظرة رجاء لمن يطعمها. ما يجري في هذه الأحياء البيروتية ليس حادثًا عابرًا، بل فعل متكرّر ومنهجي، يوصف بأنه واحد من أكثر أشكال العنف الصامت قسوة، وأحد أوجه الخلل الأخلاقي والاجتماعي الذي يختبئ خلف مظاهر المدنية.
الناشطون في مجال حقوق الحيوان يدقون ناقوس الخطر مُحذرين من أنّ تكرار هذه الممارسات يعكس غياب الردع وضعف تطبيق قانون الرفق بالحيوان رقم 47 لعام 2017. فبينما يواصل الفاعل تنقله بين الشوارع من دون مساءلة، تتزايد مشاهد القطط النافقة في الحدائق، ما يُثير غضب السكان واستنكار الجمعيات البيئية والحقوقية على حد سواء.
إنّها ليست مجرّد قضية حيوانات شاردة، بل قضية مُجتمع كامل يُختبر إنسانيًا. فالطريقة التي نتعامل بها مع الكائنات الأضعف تعكس صورتنا الحقيقية وتحدّد مدى قدرتنا على احترام الحياة بكل أشكالها. من هنا تتحوّل هذه الجريمة من مجرّد انتهاك لحقوق الحيوان إلى مرآة لواقع أخلاقي مأزوم، يستدعي تحركًا عاجلًا من السلطات والمجتمع معًا، قبل أن تتآكل إنسانيتنا بصمت كما تآكلت أجساد تلك القطط في الظلّ.
الناشطة غنى نحفاوي، المعروفة بدفاعها المستمر عن الحيوانات، تقول، في حديث لـ”هنا لبنان”، إنّ العمل على توثيق الانتهاكات ضد الحيوانات لا يزال يواجه صعوبات كبيرة في غياب الأدلة الواضحة، مؤكدةً أن القضايا المتعلقة بالتعذيب أو سوء المعاملة تتطلّب إثباتات ملموسة لضمان محاسبة المعتدين بموجب قانون الرفق بالحيوان رقم 47 لعام 2017.
وأوضحت نحفاوي: “منذ نحو شهر، نحاول رصد حالة أبلغتنا عنها السيدة المعنية، لكنّنا لم نتمكن بعد من جمع ما يكفي من الأدلة. للأسف، في مثل هذه القضايا لا يمكننا التقدّم بأي شكوى قانونية من دون دليل واضح، لأنّ أقوال الشهود أو النقل الشفهي لا تكفي أمام القضاء، خاصة أن المتهمين غالبًا ما ينكرون التهم المنسوبة إليهم”.
وشدّدت على أنّ وجود دليل مصوّر أو موثّق بات اليوم أمرًا أساسيًا لأي تحرّك قانوني أو حقوقي، مضيفةً: “العصر الرقمي جعل من الممكن رصد المخالفات بسهولة أكبر، لكن مسؤوليتنا كناشطين تظلّ مرتبطةً بتقديم أدلة قادرة على إقناع الجهات القضائية، سواء كنا أفرادًا أو جمعيات”.
وفيما يتعلّق بدور وسائل التواصل الاجتماعي، كشفت نحفاوي أن “السوشيال ميديا أصبحت أداةً فعالةً في تحريك الرأي العام وحتى النيابة العامة في بعض الحالات”، وقالت: “عندما نحصل على دليل واضح، ننشر الحالة عبر منصّات التواصل، وكثيرًا ما تتحرك النيابة العامة فورًا في حال كانت المخالفة جسيمة وواضحة، فتعطي إشارة لقوى الأمن للتحرّك وضبط المعتدي وإنقاذ الحيوان”.
وأضافت أن “الحالات التي لا تتوفّر فيها أدلة كافية تُتابَع من خلال الشكاوى الرسمية التي تتقدّم بها الجمعيات عبر وكلائها القانونيين أمام النيابة العامة، مرفقةً بالمستندات المتاحة”. وتابعت: “استطعنا من خلال هذه القنوات، سواء عبر السوشيال ميديا أو المسار القانوني، إنقاذ العديد من الحيوانات التي تعرّضت للعنف والإهمال، مثل الضرب أو تركها في ظروف مناخية قاسية”.
وختمت نحفاوي بالتأكيد على أنّ “الخطوة الأولى لتحقيق العدالة هي الدليل”، داعيةً كل من يشهد على أي انتهاك بحقّ الحيوانات إلى توثيقه بصورة أو فيديو لضمان محاسبة المعتدي.
وينص القانون على أنّه: “من أقدم قصدًا غير مضطرّ على قتل حيوان جر أو حمل أو ركوب أو مواشي من مختلف الأنواع تخص غيره يعاقب بالتوقيف التكديري إذا وقع الجرم في ما هو جار على ملك الفاعل أو بإجارته أو حيازته بأي صفة كانت من الأراضي أو الإسطبلات أو الحظائر أو الأبنية وما يتبعها، وبالحبس حتى ستة أشهر إذا وقع الجرم في مكان جار على ملك صاحب الحيوان أو بإجارته أو بحيازته بأي صفة كانت، وبالحبس من خمسة عشر يومًا إلى شهرين إذا ارتُكب الجرم في أي مكان آخر. وإذا قتل بالتسميم أحد الحيوانات المذكورة أعلاه، كانت العقوبة في كل حال الحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين”.
وهنا يوضح المحامي منير الزغبي أنّ القانون رقم 47 الصادر عام 2017 شكّل نقلةً نوعيةً في مجال حماية الحيوانات والرفق بها، غير أن المشكلة الأساسية تكمن في العقوبات التي نصّ عليها. فعلى الرغم من أنّ القانون تضمّن عقوبات تتراوح ما بين ثلاثة أشهر وسنتين لبعض المخالفات، إلّا أنه لم يتطرّق صراحةً إلى مسألة إيذاء أو قتل الحيوانات.
وبيّن الزغبي أنّ جرائم القتل أو الإيذاء لا تزال خاضعةً لأحكام قانون العقوبات اللبناني، وتحديدًا للمادة 762، معتبرًا أن العقوبات المنصوص عليها بموجب هذه المادة غير رادعة، إذ لا توازي خطورة الفعل ولا تشكّل وسيلة فعّالة لردع مرتكبي هذه الجرائم.
وأضاف الزغبي أنّ لبنان لا يشهد تطبيقًا فعليًا لردع مرتكبي جرائم العنف ضد الحيوانات، مشيرًا إلى أن حالات المحاسبة في هذا الإطار شبه معدومة.
ولفت إلى أنّ العقوبات الواردة في القانون 47 تتعلّق في معظمها بالمخالفات المرتبطة بالمنشآت كالملاجئ أو السيرك، بينما غابت عنها العقوبات الخاصة بجرم القتل أو الإيذاء المباشر للحيوان، لذلك يبقى النص القانوني الحالي قاصرًا عن تحقيق الردع المطلوب.
وختم الزغبي مُشدّدًا على أن قلّة قليلة من القضاة في لبنان تتعامل مع هذه القضايا بروحية القانون، أي بروح الحماية والردع، وتعمل على استنباط حلول قانونية لتشديد العقوبات أو فرض محاسبة فعلية، إلّا أن هذه الممارسات تبقى استثناءً لا قاعدة، ما يبرز الحاجة الملحّة لتعديل التشريعات بما يضمن حماية حقيقية للحيوانات وفرض عقوبات رادعة على من يعتدي عليها.