“الحزب” يضرب الاقتصاد مجدداً.. السلاح يغتال التعافي!


خاص 24 تشرين الأول, 2025

لا يمكن للبنان أن ينهض واقتصاده مقيّد بسلاحٍ خارج شرعية الدولة. فكل دولار استثمار، وكل مشروع إصلاح، وكل خطة إنقاذ، ستبقى معلّقة في الهواء طالما أنّ القرار الوطني موزّع بين الدولة ودويلة السلاح. فالأمن ليس تفصيلاً عابرًا، بل أساس الاقتصاد وثقته. وما لم تُحسم هذه المعادلة، سيبقى لبنان رهينة الخوف والجمود، يلهث خلف وعودٍ لا تُترجم، ومساعداتٍ لا تُثمر

كتب أنطوان سعادة لـ”هنا لبنان”:

كلّما حاول لبنان أن يلتقط أنفاسه، يطلّ السلاح ليخنق أي بارقة أمل. أراقب المشهد وأتساءل: كيف يمكن لاقتصادٍ هشّ، يبحث عن نافذة ضوء وسط الركام، أن ينهض فيما الدولة نفسها عاجزة عن بسط سلطتها على كامل أراضيها؟ لقد قالها رئيس الحكومة مؤخرًا بوضوحٍ نادر: حزب الله يجب أن يكون حزبًا سياسيًا بلا جناح مسلح. موقف قد يبدو بديهياً في أي دولة طبيعية، لكنه في لبنان يُعتبر خطوة جريئة في وجه واقعٍ شاذّ بات يعيق كل مسار نحو الاستقرار.

لا يمكن لأي إصلاح أن ينجح في ظل غياب الأمن، ولا لأي خطة اقتصادية أن تُنفَّذ فيما القرار الاستراتيجي خارج الدولة. فالثقة — وهي العملة الأهم في أي اقتصاد — لا تُبنى بالوعود ولا بالأرقام، بل بالاستقرار والسيادة. وما لم تُحصر القوة المسلحة بيد الدولة، سيبقى لبنان في عين العاصفة: بلد يحاول أن يتنفس اقتصادياً، فيما يُخنق سياسياً بسلاحٍ لا يخضع لأي محاسبة.

الحكومة تحاول، لا شك. تتحدث عن إصلاحات، عن تفاهمات مع صندوق النقد، وعن إنعاش السياحة. لكن كل ذلك يبقى في الهواء، لأنّ الاقتصاد لا يعيش على النيات، بل على ثقة الداخل والخارج. وهذه الثقة لا تولد في ظل فوضى السلاح، بل حين يشعر المستثمر والسائح والمغترب أنّ لبنان دولة فعلية، لا ساحة صراعات.

ولذلك، لا إصلاح حقيقياً من دون إصلاح البنية الأمنية والسيادية. فحصرية السلاح ليست مطلباً سياسياً فحسب، بل شرطاً اقتصادياً أساسياً. من دونها، سيبقى كل حديث عن التعافي مجرّد وهم، وكل محاولة للإنقاذ مجرّد مسكّنٍ مؤقت في جسدٍ مثخنٍ بالانقسامات.

وبحسب البروفيسورة نيكول بلوز بايكر، الباحثة في السياسات الاقتصادية والأستاذة الجامعية، فإنّ الواقع الأمني والسياسي في لبنان يشكّل العائق الأبرز أمام أي نهوض اقتصادي فعلي.
فقد أشارت إلى أنّ المخاطر الأمنية والسياسية تدخل اليوم في صلب حسابات أيّ مستثمر، لأنها تزيد من كلفة الاستثمار وتخفض من مردوده، وتحدّ من رغبة المستثمرين في إطلاق مشاريع داخل بيئة محفوفة بالمخاطر. وأضافت أنّ الصورة الإقليمية، ولا سيما ما يجري في غزة، تجعل المناخ أكثر توتراً وتزيد من حذر رؤوس الأموال الباحثة عن الاستقرار قبل أي ربح.

كما اعتبرت بلوز بايكر أنّ السيطرة على السلاح تمثّل شرطاً محورياً لبناء اقتصاد سليم. فهي لا تؤمّن فقط الأمن، بل توقف أيضاً عمليات التهريب والتهرّب الضريبي، ما يضمن للدولة زيادة إيراداتها. كذلك، فإنّ ضبط السلاح يسهم في وقف تبييض الأموال وإغلاق منافذ الاقتصاد الأسود، ما يساعد لبنان على الخروج من اللائحة الرمادية ويعيد إليه ثقة المؤسسات المالية الدولية. وأكدت أنّ احترام القانون واستقلالية القضاء لا يمكن تحقيقهما في ظل وجود سلاح خارج سلطة الدولة، لأنّ ذلك يعني عملياً غياب الدولة القادرة على التعامل الندّي مع سائر الدول، وحرمان لبنان من المساعدات وفرص إعادة الإعمار، بل ووضعه في عزلة دولية قد تقوده إلى عقوبات إضافية.
وفي سياق متصل، لفتت الباحثة إلى أنّ الضرر الأخطر الذي يعانيه الاقتصاد اللبناني لا يقتصر على المخاطر الأمنية، بل يمتد إلى تدمير البنى التحتية بفعل الفساد والصفقات التي نُسجت على مدى سنوات طويلة حتى قبل اندلاع الحروب. وأوضحت أنّ البنى التحتية هي “محرّك النموّ الاقتصادي”، إذ لا يمكن تحقيق أي إنتاجية أو مواكبة للتطور التكنولوجي في غياب شبكات نقل وكهرباء واتصالات حديثة وفاعلة.
وشدّدت بلوز بايكر على أنّ عجز الدولة عن بسط سلطتها الكاملة والسيطرة على السلاح يقوّض الثقة بقدرتها على تنفيذ أي إصلاح فعلي، مشيرة إلى أنّ المستثمرين والمجتمع الدولي يراقبون هذه المسألة عن كثب. فالثقة، على حدّ قولها، لا تُبنى على الوعود والخطط الورقية، بل على قدرة الدولة على فرض القانون وضمان الأمن.
وفي هذا الإطار، تؤكد البروفيسورة نيكول بلوز بايكر أنَّه «لا يمكن التعايش بين دولةٍ ضعيفةٍ واقتصادٍ قوي». وترى أن أيّ خطة تعافٍ لا تتضمّن معالجة واضحة لتأثير السلاح على مؤسسات الدولة ليست خطة إنقاذ حقيقية، بل مجرّد مساكنة للأزمة ومماطلة في الاعتراف بجوهر المشكلة. وتشدد على أنّ الإصلاح لا يبدأ من الأرقام ولا من الموازنات، بل من السيادة والأمن، لأنّ الاقتصاد لا يزدهر في ظل دولةٍ منقوصة القرار، ولا يمكن لثقة الداخل والخارج أن تعود طالما الدولة عاجزة عن الإمساك بزمام الأمور.

وأشارت البروفيسورة نيكول بلوز بايكر إلى أنّ الحكومة تبدو وكأنها تختبئ وراء برنامج صندوق النقد الدولي بانتظار ثلاثة مليارات دولار، في وقتٍ يفترض أن يكون التركيز على جذب الاستثمارات الحقيقية لا على انتظار القروض.
وأكدت أنّ الدول التي تموّل عبر صندوق النقد الدولي تستفيد أكثر عندما تأتي شركاتها وتشارك في إعادة إعمار لبنان أو في الاستثمار المباشر في اقتصاده، بدلاً من إقراضه أموالاً بفوائد لا مردود فعلياً لها.

واختتمت أنّ المساعدات والقروض لا يمكن أن تحلّ مكان الاستثمار المنتج، لأنّ الثقة بالاقتصاد لا تُبنى عبر الاتفاقات الورقية، بل عبر دولة فاعلة تمتلك قرارها وتفرض سلطتها الكاملة على أراضيها. فبدون ذلك، لا يمكن جذب الرساميل الأجنبية، ولا يمكن للبنان أن يتحوّل إلى بيئة استثمارية جاذبة مهما تعددت الوعود الدولية أو برامج الدعم المالي.

في المحصلة، لا يمكن للبنان أن ينهض واقتصاده مقيّد بسلاحٍ خارج شرعية الدولة. فكل دولار استثمار، وكل مشروع إصلاح، وكل خطة إنقاذ، ستبقى معلّقة في الهواء طالما أنّ القرار الوطني موزّع بين الدولة ودويلة السلاح. فالأمن ليس تفصيلاً عابرًا، بل أساس الاقتصاد وثقته. وما لم تُحسم هذه المعادلة، سيبقى لبنان رهينة الخوف والجمود، يلهث خلف وعودٍ لا تُترجم، ومساعداتٍ لا تُثمر.

لقد أثبتت التجربة أنّ الرصاصة الواحدة قادرة على محو ما تبنيه سنوات من العمل والإصلاح، وأنّ التعافي لا يولد في ظل التهديد بل في ظل القانون. وحدها دولة قادرة على احتكار القوة، وفرض النظام، وتأمين الاستقرار، يمكن أن تستعيد ثقة شعبها والعالم بها. أمّا بقاء السلاح خارج الدولة، فمعناه ببساطة أنّ الاقتصاد اللبناني سيظل يُغتال كل مرة… قبل أن يولد من جديد.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us