“حزب الله” يصنع التفاوض… والمسيحيون يعدّون المقاعد


خاص 27 تشرين الأول, 2025

الحزب الذي أشعل الحرب يريد اليوم احتكار السلام من منظوره. يستعرض قوته في الشارع، ويصعّد من نبرة خطاباته في محاولةٍ واضحة لتوجيه رسائل مزدوجة إلى تل أبيب وواشنطن: “تفاوضوا معي، فأنا لبنان وقرار الحرب والسلم الحقيقي في جعبتي”. وما يسهّل مهمته هو الانكفاء الكامل للقوى المسيحية الفاعلة، والتي كانت تاريخياً ركيزة التوازن في المشهد اللبناني


كتب طوني كرم لـ”هنا لبنان”:

بعد أحد عشر شهراً من الحرب الإسرائيلية على لبنان، يعود المشهد السياسي إلى النقطة نفسها: “حزب الله” يتصرّف وكأنّه الدولة، والحكومة تتصرّف وكأنها ضيف عابر على أرضها.
الرهان الجديد الذي أطلقه الرئيس نبيه بري على تفعيل “الميكانيزم” ليس سوى محاولة جديدة لإحياء صيغة فقدت فعاليتها، بعدما عجزت طوال عامٍ عن تثبيت وقف النار وحماية لبنان من الضربات الإسرائيلية. خلف هذا الرهان، يقف “حزب الله” مطمئناً إلى أنّ أحداً في الداخل لا يجرؤ على منازعته القرار، ولا حتى محاسبته على توريط لبنان في حربٍ مفتوحة مع إسرائيل.
في المقابل، يحاول رئيس الحكومة الدكتور نواف سلام، من الكرسي الرسولي، رسم ملامح خطاب المستقبل، مؤكداً أنّ “السلام في المنطقة لا يقوم إلا على العدل وحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته”. لكنه، كمن يصرخ في وادٍ، مع ربطه مصير لبنان بحلّ الدولتين. فبينما يحاول سلام التمسّك بثوابت الحكومة وقرار حصرية السلاح، تنشغل القوى السياسية المسيحية في صراعاتٍ انتخابية حول الدائرة السادسة عشرة والمقاعد الستة لغير المقيمين، وكأنّ لبنان بمنأى عمّا يحصل من حوله.
رسائل إسرائيل واضحة: لا إعمار قبل حسم مصير سلاح “حزب الله”. واستهداف الحفارات جنوب الليطاني ليس استهدافاً لأعمال بنى تحتية تخصّ “حزب الله”، بل أدوات ضغط سياسي، تريد من خلالها فرض معادلة جديدة: إمّا نزع السلاح أو بقاء الحرب. والمفارقة أنّ واشنطن نفسها باتت تكرر المطلب نفسه بلسان موفدها توم باراك، الذي لمّح بوضوح إلى أنّ غياب اتفاق مباشر بين إسرائيل و”حزب الله” هو ما يعطل أي هدنة دائمة، في إشارة إلى عجز الدولة اللبنانية عن الإمساك بقرارها السيادي. وهذا ما ستكرّره الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس على مسامع المسؤولين الذين ستلتقيهم قُبيل مشاركتها في إجتماع الميكانيزم يوم الأربعاء المقبل.
وسط هذا المشهد، يتقدّم “حزب الله” في مسعاه لاحتكار القرار في لبنان من جديد. الحزب الذي أشعل الحرب يريد اليوم احتكار السلام من منظوره. يستعرض قوته في الشارع، ويصعّد من نبرة خطاباته في محاولةٍ واضحة لتوجيه رسائل مزدوجة إلى تل أبيب وواشنطن: “تفاوضوا معي، فأنا لبنان وقرار الحرب والسلم الحقيقي في جعبتي”. وما يسهّل مهمته هو الانكفاء الكامل للقوى المسيحية الفاعلة، والتي كانت تاريخياً ركيزة التوازن في المشهد اللبناني.
المشكلة ليست فقط في سلاح “حزب الله”، بل في الفراغ الذي تركه الآخرون. القوى المسيحية، المنشغلة بحسابات الحواصل الانتخابية، فقدت موقعها الوازن. بدل أن تكون رأس الحربة في استعادة الدولة، أصبحت أسيرة معارك جانبية تُدار بعقلية محليّة رجعيّة، فيما الأحداث في المنطقة تتسارع ولبنان يفقد دوره ومكانته.

إذا استمر هذا الانكفاء، سيجد المسيحيون أنفسهم خارج المعادلة الإقليمية بالكامل. فـ”حزب الله” يفاوض على مستقبل لبنان من موقع القوة، رغم الويلات التي تكبدها، ويسعى إلى مخاطبة المجتمع الدولي مبدياً استعداده لتقديم الضمانات الأمنية التي تطلبها إسرائيل مقابل تثبيت نفوذه السياسي. والنتيجة ستكون: حدود آمنة لتل أبيب، ونفوذ دائم لطهران، ودولة لبنانية مشلولة بلا وزن ولا قرار.
اليوم، أكثر من أي وقت مضى، على المسيحيين أن يستفيقوا من سباتهم السياسي. عليهم أن يدركوا أنّ الدفاع عن التوازن الوطني لا يكون بخطابات انتخابية ولا بتقاذف الاتهامات، بل بموقف سيادي جريء يعيد الاعتبار للدولة ومؤسساتها. الصمت أو الحياد في لحظة مصيرية كهذه تضع لبنان والمسيحيين في صلب التفاوض على مستقبل المنطقة وسلامها هو تواطؤ، والتذرّع بالضعف هو استسلام مقنّع.
التاريخ لا يرحم الغياب ولا “الأغبياء”. من يتأخر عن طاولة القرار يصبح بنداً على جدول الآخرين. فهل يتدارك المسيحيون غيابهم عن الخرائط التي ترسم لمستقبل المنطقة، تجنّباً لأن يُقال لهم مجدداً: استفيقوا؟!

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us