لبنان والعملات الرقمية: بين انهيار الثقة وفرصة الإنقاذ الاقتصادي


خاص 28 تشرين الأول, 2025

قد تكون العملات الرقمية خشبة خلاص مؤقتة للمواطنين، لكنها لن تصبح حلاً دائماً إلا إذا ترافقت مع إصلاح مالي شامل

كتب جو أندره رحال لـ”هنا لبنان”:

منذ اندلاع الأزمة المالية في لبنان عام 2019 برزت العملات الرقمية كمنقذ بديل لكنها في الوقت ذاته تطرح مخاطر كبيرة على الأمن المالي والاجتماعي، ولبنان اليوم يقف أمام مفترق دقيق: هل تتحوّل العملات الرقمية إلى وسيلة استقرار حديثة، أم إلى فوضى مالية رقمية جديدة تزيد الانهيار تعقيداً؟

لجأ اللبنانيون تدريجياً إلى العملات الرقمية، بدأ ذلك بشكل محدود عبر منصّات خارجية وشبكات تحويل فردية، ثم توسّع مع انتشار العملات المستقرة مثل USDT (Tether) التي ترتبط بالدولار الأميركي وتحافظ على قيمتها مقارنة بالعملات المتقلبة كالبيتكوين.

وبات العديد من الشباب والعاملين عن بُعد يتقاضون أجورهم مباشرة عبر العملات الرقمية، كما يستخدمها التجار والمستوردون لتسوية مدفوعاتهم.

وفق تقارير Intellinews وCoinfomania، ارتفع حجم التعاملات بالعملات الرقمية في لبنان بنسبة تفوق 50% بين عامي 2022 و2025، ما جعل البلد في طليعة دول الشرق الأوسط في استخدام الأصول المشفّرة. هذا الانتشار لم يكن نتاجاً لرغبة بالحداثة التقنية فحسب، بل انعكاساً للازمة الاقتصادية.

ورغم الطابع الشعبي المتزايد لاستخدام العملات الرقمية، فإن الإطار القانوني في لبنان لا يزال ضبابياً. إذ لم يشرّع مجلس النواب حتى الآن أي قانون خاص بالأصول الافتراضية، ولم يعترف بها مصرف لبنان كوسيلة دفع قانونية. في المقابل، أصدرت هيئة الأسواق المالية (CMA) عام 2018 تعميماً يمنع المؤسسات المالية المرخصة من إصدار أو الترويج أو التداول بالعملات الرقمية، محذّرة من مخاطرها في عمليات غسل الأموال وتمويل الإرهاب. كما أكد مصرف لبنان في بيانات متكررة منذ عام 2013 أنّ التداول بهذه الأصول “يتم على مسؤولية المستخدمين دون أي حماية قانونية أو مصرفية”.

ومع ذلك، لم يُمنع الأفراد من امتلاكها أو تحويلها، ما جعل لبنان يعيش حالة “منطقة رمادية مقصودة”: لا اعتراف رسمي ولا تجريم صريح، بل تجاهل واقعي يتيح ازدهار سوق رقمية موازية خارج رقابة الدولة.

هذه السوق باتت اليوم ظاهرة قائمة بذاتها. في غياب المنصات الرسمية، تُدار عمليات البيع والشراء عبر وسطاء محليين ومكاتب غير نظامية، أو من خلال مجموعات على تطبيقات واتساب وتيليغرام. اللبنانيون يشترون العملات الرقمية بالدولار النقدي (“فريش”) أو بالليرة وفق سعر السوق، ويحصلون بالمقابل على أرصدة رقمية تُحوَّل إلى محافظهم الإلكترونية. هذه العمليات تتم بسرعة وسهولة، لكنها تحمل مخاطر كبيرة. فغياب الإشراف القانوني والضمان المالي جعل السوق عرضة لموجات احتيال ومخططات “ربح مضمون” شبيهة بالهرميات المالية السابقة، حيث استُدرج المئات إلى استثمارات رقمية انتهت بانهيار مفاجئ وضياع كامل للأموال دون إمكانية استردادها أو اللجوء إلى القضاء

على المستوى الأمني، تنظر السلطات اللبنانية إلى هذا الملف بعين القلق. فقد كثّفت اللجنة الخاصة بالتحقيق المالي (SIC) رقابتها على التحويلات المرتبطة بالأصول الافتراضية، وبدأت الأجهزة القضائية والأمنية منذ عام 2023 بتدريب عناصرها على تتبّع حركة العملات المشفّرة بالتعاون مع شركاء دوليين، التزاماً بتوصيات مجموعة العمل المالي (FATF). وفي ظل هذا التوجّه، قد تُعتبر بعض المعاملات الرقمية ذات المبالغ الكبيرة أو الغامضة “تدفقات مشبوهة” تخضع للتحقيق أو التجميد. بذلك، تتعامل الدولة مع الظاهرة كتهديد مزدوج: تهديد مالي يضعف قدرتها على ضبط النقد، وتهديد أمني محتمل مرتبط بتمويل أنشطة غير مشروعة.

في مقابل هذا الحذر، يواصل مصرف لبنان طرح فكرة إطلاق “الليرة الرقمية اللبنانية” (CBDC – Central Bank Digital Currency)، وهي عملة رقمية مركزية تصدرها الدولة وتُدار إلكترونياً تحت رقابة كاملة من المصرف المركزي. هذه الفكرة، المطروحة منذ عام 2017، عادت إلى الواجهة مجدداً، والليرة الرقمية قد تمثّل أداة لزيادة الشفافية ومكافحة التهرب الضريبي.

أمام هذا الواقع، يعيش لبنان مفارقة واضحة: المجتمع سبق الدولة بخطوات واسعة في التحوّل الرقمي المالي، بينما الدولة لا تزال عاجزة عن تنظيم أو مواكبة هذا التغيير.

إنّ مستقبل العملات الرقمية في لبنان يتوقف على قدرة الدولة على إيجاد إطار تشريعي متوازن، يحمي المستخدمين ويمنع الاستغلال دون أن يخنق الابتكار. المطلوب اليوم إصدار قانون وطني للأصول الرقمية، يُحدّد صلاحيات الرقابة، يرخص منصّات تداول موثوقة، ويُلزمها بمعايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. كذلك، على الحكومة والجامعات ومنظمات المجتمع المدني إطلاق برامج توعية مالية رقمية، خصوصاً للشباب، لتفادي الوقوع ضحية وعود الربح السريع أو الاستثمارات الوهمية.

في الخلاصة، تمثل العملات الرقمية في لبنان انعكاساً مباشراً لأزمة الثقة في الدولة أكثر مما هي خيار اقتصادي تقني، لكنها أيضاً تكشف هشاشة البنية القانونية في البلاد. وقد تكون هذه العملات خشبة خلاص مؤقتة للمواطنين، لكنها لن تصبح حلاً دائماً إلا إذا ترافقت مع إصلاح مالي شامل، قانون حديث، وإرادة سياسية حقيقية لبناء اقتصاد رقمي آمن وعادل.

فبين فرصة الإنقاذ وسيناريو الفوضى، يبقى القرار بيد الدولة: إما أن تُشرعن المستقبل وتضبطه، أو تتركه يتحوّل إلى “نظام نقدي موازٍ” يكرّس غيابها أكثر.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us