لبنان يفتح باب الأمان: من تعويض نهاية الخدمة إلى الراتب التقاعدي


خاص 1 تشرين الثانى, 2025

إنّ إطلاق نظام المعاش التقاعدي لا يمثل مجرد تعديل إداري أو قانوني، بل يشكّل تحولًا في فلسفة الدولة تجاه مواطنيها، من نظام يقوم على التعويض الآني إلى نظام مستدام يوفّر الأمان والكرامة. ومع تطبيق هذا النظام، يفتح لبنان صفحة جديدة من العمل الاجتماعي المؤسسي القائم على العدالة والاستدامة، ويضع حجر الأساس لمستقبلٍ أكثر طمأنينة وإنصافاً لكل مواطن لبناني

كتبت ناديا الحلاق لـ”هنا لبنان”:

ها هو لبنان يخطو بثقة نحو مرحلة جديدة من الأمان الاجتماعي، حيث يتحول حلم التقاعد الكريم إلى واقع ملموس مع بدء العمل لإطلاق نظام المعاش التقاعدي الجديد. خطوةٌ وصفها المدير العام للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، محمد كركي، بأنها بداية عهدٍ مختلف يُعيد للمضمونين الشعور بالاستقرار بعد سنوات طويلة من القلق حول مصيرهم بعد نهاية الخدمة. فالمعاش لم يعد مجرد مكافأة تُصرف مرة واحدة، بل دخلٌ ثابت يستمر مدى الحياة، ويضمن استمرار الرعاية لعائلات المضمونين من بعدهم. إنّه مشروع إصلاحي طال انتظاره، يجمع بين العدالة والحداثة، ويؤسس لنظام حماية اجتماعية أكثر إنصافًا وإنسانية في لبنان.

وأكد كركي أنّ لبنان يدخل فعليًا مرحلة جديدة من الحماية الاجتماعية مع هذا النظام الذي يشكّل نقلة نوعية في مفهوم الضمان الاجتماعي. فبعد مسار طويل من العمل والتحضير بدأ منذ عام 2004، أُقرّ القانون في عام 2023 ليكون ثمرة جهود متواصلة بين الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وشركائه المحليين والدوليين. الهدف الأساس من هذا القانون هو ضمان دخلٍ شهري مستدام لكل مضمون بعد التقاعد، يستمر حتى بعد وفاته ليستفيد منه أفراد عائلته، ما يعزز الشعور بالأمان ويكرّس مبدأ العدالة الاجتماعية.

وأشار كركي إلى أنّ تنفيذ هذا النظام يتطلب صدور 13 مرسومًا تطبيقيًا، وأنّ العمل جارٍ لإصدارها تباعًا خلال السنوات المقبلة، بحيث يُتوقع أن يصبح النظام ساري المفعول بشكل كامل مع مطلع عام 2027. هذه المراسيم، وفق كركي، تُعدّ أساسية لترجمة القانون على أرض الواقع، وتغطي مختلف الجوانب الإدارية والمالية والتنظيمية. كما أوضح أنّ الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وضع خطة عمل دقيقة بالتعاون مع منظمة العمل الدولية، وبدعم من المملكة المتحدة، تهدف إلى رقمنة ما يقارب 850 ألف سجل فردي للفترة الممتدة من عام 2021 إلى عام 2024. هذه العملية التقنية الطموحة ستُسهم في تسهيل إجراء الدراسات الاكتوارية اللازمة لتحديد نسب الاشتراكات وضمان الانتقال السلس من النظام القديم إلى الجديد.

وفي ما يتعلق بآلية الانتقال، لفت كركي إلى أنّ اعتماد النظام التقاعدي سيتم تدريجيًا لتفادي أي ارتباك أو ضرر للمضمونين. فالأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 49 عامًا سيُضمّون تلقائيًا إلى النظام الجديد، بينما سيُمنح من تتراوح أعمارهم بين 49 و64 عامًا حرية الاختيار بين البقاء ضمن نظام تعويض نهاية الخدمة أو الانتقال إلى نظام المعاش التقاعدي. وسيُعتمد النظامان بالتوازي لمدة 15 عاماً، قبل الانتقال الكامل إلى النظام الجديد، ما يمنح الوقت الكافي للتأقلم وضمان استقرار التمويل.
وفي إطار تحديث الخدمات وتسهيل الإجراءات، كشف كركي عن نية الصندوق اعتماد بطاقات فردية رقمية تتضمن كل المعلومات المتعلقة بتاريخ العمل والاشتراكات والفوائد، ما سيسهّل عملية احتساب التعويضات وتحويلها إلى النظام التقاعدي الجديد. كما أوضح أنّ آلية احتساب المعاش ستكون بنسبة 1.33 في المئة عن كل سنة خدمة، أي أن من عمل 30 عامًا سيحصل على معاش شهري يوازي نحو 40 في المئة من متوسط راتبه، وهو ما يُعتبر تطورًا نوعيًا مقارنة بالنظام السابق الذي كان يعتمد على تعويض نهاية الخدمة لمرة واحدة فقط.
ومن أبرز الجوانب التي ميّزت هذا القانون، بحسب كركي، أنّه كرس مبدأ المساواة بين الجنسين بشكل واضح، مستخدماً مصطلح “الشريك” بدلًا من “الزوج” أو “الزوجة”، لضمان استفادة الطرف الباقي على قيد الحياة من المعاش دون أي تمييز. هذه الخطوة تُعدّ سابقة في التشريعات الاجتماعية اللبنانية وتتماشى مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان والمساواة.
وختم كركي بالتأكيد على أنّ اعتماد نظام المعاش التقاعدي سيمنح المضمونين استقراراً مالياً واجتماعياً أكبر، موضحاً أنّ قيمة المعاش تُقدّر بثلاثة أضعاف ما كان يتقاضاه المضمون كتعويض نهاية خدمة، ما يوفّر شبكة أمان حقيقية لهم ولعائلاتهم. كما أشار إلى أنّ الصندوق يسعى من خلال هذه الخطوة، ومع تطبيق نظام الضمان الصحي مدى الحياة الذي يستفيد منه حاليًا أكثر من 30 ألف شخص تجاوزوا سن الرابعة والستين، إلى ترسيخ منظومة حماية اجتماعية شاملة ترافق المواطن اللبناني في مختلف مراحل حياته.
إنّ إطلاق نظام المعاش التقاعدي لا يمثل مجرد تعديل إداري أو قانوني، بل يشكّل تحولًا في فلسفة الدولة تجاه مواطنيها، من نظام يقوم على التعويض الآني إلى نظام مستدام يوفّر الأمان والكرامة. ومع تطبيق هذا النظام، يفتح لبنان صفحة جديدة من العمل الاجتماعي المؤسسي القائم على العدالة والاستدامة، ويضع حجر الأساس لمستقبلٍ أكثر طمأنينة وإنصافاً لكل مواطن لبناني.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us