سلسلة من الجرائم تصدم اللبنانيين… عنف بلا حدود!

الجرائم الوحشية ليست مجرّد انحراف فردي، بل مرآة لتصدّع المجتمع نفسيًا واجتماعيًا. والفهم العميق لأسبابها هو الخطوة الأولى نحو بناء مجتمع أكثر تماسكًا وإنسانيةً.
كتبت هانية رمضان لـ”هنا لبنان”:
تتصاعد في الفترة الأخيرة معدّلات “الجرائم الوحشية” في لبنان، لتتحوّل إلى ظاهرةٍ تُثير الرعب والقلق في الشارع اللبناني. مشاهد العنف المفرط التي ترافق هذه الجرائم لم تعد مجرّد أحداث فردية، بل أصبحت مؤشرًا خطيرًا إلى تفكّك القيم وضغوط اجتماعية ونفسية متزايدة، وتحمل طابعًا قاسيًا وغير إنساني، يكشف عن اختلال نفسي واجتماعي آخذ في الاتساع.
في الفترة الأخيرة، شهد لبنان سلسلةً من الجرائم التي وُصفت بالوحشية نظرًا لطبيعة العنف المستخدم فيها وتكرارها في مناطق مختلفة. فقد هزّت بلدة سنّ الفيل جريمة عُرفت باسم “حقيبة الموت”، حيث عُثر على جثة داخل حقيبة بطريقة مروّعة أثارت الذعر بين الأهالي. وفي الشمال اللبناني، وقعت جريمة مأساوية داخل أسرة، إذ أقدم شاب على قتل والده وزوجته وابنه قبل أن ينتحر، في مشهدٍ صادمٍ يعكس تصاعدًا في حدّة العنف العائلي. كذلك، شهدت منطقة الدورة جريمة طعن مروّعة في وضح النهار، راح ضحيتها امرأة على يد طليقها أمام المارّة، ما أثار حالةً من الغضب والخوف في المجتمع.
كذلك، اهتزّت بلدة حارة الناعمة في جبل لبنان إثر جريمة وصفها الأهالي بـ”المرعبة”، حيث أقدم شخص على قتل رجل وسرقة أمواله، ثم قام بحرق جثّته في برميل نفايات مستخدمًا المازوت والبنزين، في جريمةٍ هزّت الضمير الجماعي وأظهرت عمق الانحلال في الروابط الأخلاقية والمجتمعية.
ارتفاع مقلق في الأرقام
بحسب موقع “الدولية للمعلومات”، ارتفعت جرائم القتل في لبنان بنسبة 33.3% منذ بداية عام 2025 حتى نهاية آب، إذ سُجّل نحو 140 جريمة قتل مقارنة بـ105 جرائم في الفترة نفسها من العام الماضي.
كما تُشير البيانات إلى أنّ معدل القتل في لبنان بلغ 2.24 لكل 100 ألف نسمة في عام 2020، بعد أن كان 3.14 في 2019، ما يبيّن تقلّبات حادّة مرتبطة بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية.
أمّا في بيروت تحديدًا، فيُقدّر مؤشر الجريمة بنحو 46.8 نقطة وفق موقع “Numbeo”، وهو تصنيف يُعتبر “مرتفعًا”، مع ملاحظة ازدياد واضح في جرائم العنف خلال السنوات الأخيرة.
وفي حديثٍ خاص لـ”هنا لبنان”، أكّد مصدر أمني أنّ الجرائم من هذا النوع ارتفعت في الآونة الأخيرة، لافتًا إلى أنّ قوى الأمن الداخلي تبذل جهودًا استثنائيةً لإلقاء القبض على المجرمين بأسرع وقت ممكن، عبر تكثيف الدوريات والتحقيقات والتنسيق مع الأجهزة القضائية.
قراءة نفسية: العنف كمرآة للألم الداخلي
توضح الاختصاصية النفسية لانا قصقص أنّ المقصود بالجرائم الوحشية من منظورٍ نفسي هو “الجرائم التي يكون فيها عنف شديد ومفرط، أي سلوك عنيف غير إنساني”.
وتُضيف أنّ مرتكب هذا النوع من الجرائم يتجاوز الهدف المباشر للسلوك — كالسعي للسرقة أو الانتقام — ليعبّر عن مكبوتات نفسية وعدوانية تكشف عن تشوّهات عميقة في شخصيته، تؤدّي إلى تفكّك الضوابط الأخلاقية وفقدان السيطرة على السلوك.
وترى قصقص أنّ الإحباط المتراكم من دون تفريغ سليم يولّد طاقة عدوانية هائلة، خصوصًا لدى الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات في الشخصية، مثل الشخصية المعادية للمجتمع أو النرجسية المرضية. هؤلاء غالبًا ما يفتقرون إلى التعاطف، ويُقدِمون على الأذى من دون إحساس بالذنب.
وتربط قصقص بين تجارب الطفولة القاسية — من عنف وإهمال ورفض — وبين العجز عن بناء علاقات صحية لاحقًا، ممّا يدفع بعض الأفراد إلى الانفصال العاطفي عن الآخرين والتحوّل إلى مرتكبين لجرائم عنيفة.
العوامل الاجتماعية المرافقة
من الناحية الاجتماعية، تشير قصقص إلى أنّ الفقر، والبطالة، والتهميش، والإهانة الاجتماعية، والتنمّر تشكّل بيئةً خصبةً لانتشار العنف، خصوصًا في ظلّ التطبيع مع ثقافة العنف واعتبارها جزءًا من “القوة” أو “الرجولة”.
كما أن ضعف الثقة بالمؤسسات وغياب العدالة السريعة يساهمان في تكوين بيئة تسمح بتكرار هذه السلوكيات دون خوف من العقاب.
نظرية اجتماعية وواقع لبناني
تشرح قصقص أن نظريات مثل “Social Disorganization Theory” و”Social Theory” تربط تزايد الجرائم الوحشية بتفكّك الأسرة وضعف الروابط الاجتماعية وغياب الرقابة المجتمعية.
وتضيف أنّ هذه الجرائم غالبًا ما تزداد في فترات الأزمات الاقتصادية والسياسية، مثل ما شهدناه بعد انفجار مرفأ بيروت عام 2020، حيث تحوّل الإحباط الجماعي إلى عنف فردي مفرط.
نحو مقاربة علاجية ووقائية
وتدعو قصقص إلى الانتقال من ردّ الفعل العقابي إلى المقاربة العلاجية عبر إنشاء وحدات متخصّصة بعلم النفس الجنائي (Forensic Psychology)، تكون مهمّتها تحليل الدوافع النفسية وتقديم توصيات علمية للوقاية من الجرائم.
كما تشدّد على أهمية تدريب رجال الأمن على قراءة المؤشّرات النفسية، واعتماد تحقيقات أكثر إنسانية ودقّة، إضافة إلى برامج إصلاحية في السجون لإعادة تأهيل المجرمين نفسيًا واجتماعيًا.
ختامًا، تحذّر قصقص من التعامل الإعلامي المثير مع الجرائم الوحشية، إذ قد يحوّلها إلى عامل جذبٍ لأشخاص ذوي ميول عدوانية، وتشدّد على أهمية أن تكون التغطية الإعلامية وسيلة توعية ترفض العنف وتدعو إلى طلب المساعدة والعلاج عند ظهور بوادر غضب أو اضطراب نفسي.
وتختم قصقص: “الجرائم الوحشية ليست مجرّد انحراف فردي، بل مرآة لتصدّع المجتمع نفسيًا واجتماعيًا. والفهم العميق لأسبابها هو الخطوة الأولى نحو بناء مجتمع أكثر تماسكًا وإنسانية”.
في المحصلة، تكشف الجرائم الوحشية التي يشهدها لبنان عن أزمة عميقة تتجاوز حدود الجريمة نفسها، لتلامِس جذور المجتمع النفسية والاجتماعية. فهي ليست مجرّد حوادث متفرّقة، بل إشارات تحذيرية إلى تآكل منظومة القيم واحتقانٍ جماعي يحتاج إلى تفريغ وعلاج قبل أن يتحوّل إلى انفجار أوسع.
فالعنف لا يولّد إلّا عنفًا، وما يحتاجه لبنان اليوم هو مبادرات حقيقية نحو الشفاء، لا الانتقام…
مواضيع مماثلة للكاتب:
في شهر “أكتوبر الوردي”: كشف اليوم أملُ الغد… | في بيروت… حفريات تُثقل كاهل الطرقات والبلدية توضح: “بدها شويّة صبر” | فوضى المرور في لبنان.. و “اليازا” تحذّر: لا رقابة فعلية! |




