بين المصارف والدولة: كيف يقترح آلان حكيم إخراج لبنان من الأزمة الاقتصادية؟

الاستقرار المالي لا يمكن تحقيقه بمعزل عن الثقة بين الدولة والمودعين، ولا يمكن إعادة النشاط الاقتصادي إلّا من خلال خطة واضحة لإعادة سيولة المصارف، مع حماية أموال المواطنين وضمان استعادة الدور الحيوي للقطاع المصرفي في الاقتصاد الوطني
كتبت ناديا الحلاق لـ”هنا لبنان”:
يشهد لبنان اليوم واحدة من أصعب فترات تاريخه المالي والاقتصادي، مع أزمة ماليّة واقتصادية حادة أثّرت بشكل مباشر على حياة المواطنين ومستقبل الاقتصاد الوطني. فقد تراجعت قيمة الليرة بشكل غير مسبوق، وتجمّدت ودائع اللبنانيين ما أثار مخاوف واسعة حول مصير الأموال ومدى قدرة الدولة على حماية المودعين. وفي الوقت نفسه، يفرض صندوق النقد الدولي شروطه على الحكومة اللبنانية، والتي تتضمّن إعادة هيكلة القطاع المصرفي وإحلال مصارف جديدة محلّ المصارف الحالية، وهو ما يطرح تساؤلات حقيقيّة حول من سيتحمّل الخسائر، وما إذا كانت الدولة جاهزة لتحمل مسؤولياتها تجاه المواطنين والمودعين.
وسط هذا الواقع المعقّد، يصبح الحديث عن الحلول ليس مجرد إجراء تقني، بل ضرورة وطنية عاجلة تتطلّب رؤية شاملة ومسؤولة. فالاستقرار المالي لا يمكن تحقيقه بمعزل عن الثقة بين الدولة والمودعين، ولا يمكن إعادة النشاط الاقتصادي إلّا من خلال خطة واضحة لإعادة سيولة المصارف، مع حماية أموال المواطنين وضمان استعادة الدور الحيوي للقطاع المصرفي في الاقتصاد الوطني.
في هذا الإطار، يقدم وزير الاقتصاد الأسبق البروفيسور آلان حكيم قراءة معمّقة للوضع الراهن، موضحًا أهمّ التحديات والحلول الممكنة، بدءًا من حماية الودائع وإعادة السيولة للمصارف، مروراً بالحفاظ على العلاقات مع المصارف المراسلة الدولية، وصولاً إلى ضرورة استعادة الدولة لسيطرتها على قرارات السلم والحرب، وتحمّل مسؤولياتها القانونية والسياسية كاملة في الأزمة الراهنة. هذا التصريح يمثل رؤية متكاملة وشاملة لمستقبل القطاع المالي في لبنان، ويضع مصلحة المواطن وأموال المودعين في صدارة أي خطة إصلاحية أو إنقاذية.
ويقول حكيم لموقع “هنا لبنان”: “الوضع المالي والاقتصادي في لبنان يمر بأزمة غير مسبوقة تتطلب خطوات حاسمة لاستعادة الثقة وحماية أموال المودعين، مع تحديد مسؤوليات الدولة بشكل واضح”.
ويوضح حكيم أنّ “المسار الذي قد يسلكه صندوق النقد الدولي، والذي يتضمّن الإطاحة برساميل المصارف الحالية وإحلال مصارف جديدة، يثير سؤالاً جوهرياً: من سيقوم بتسديد أموال المودعين؟” وأوضح: “في حال تمت تصفية رساميل المصارف الحالية، سيكون المودعون أوّل من يتحمّل الخسائر، كونهم الحلقة الأضعف في ترتيب الأولويات. فالمصارف الجديدة لن تتحمّل التزامات المصارف اللبنانية الحالية، وبالتالي لن تكون مسؤولة عن تعويض المودعين”.
ويضيف: “لذلك، لا يُمكن الحديث عن أيّ حلّ دون أن تحدّد الدّولة حصّتها من الخسائر وتقدّم خطة تمويل فعّالة تضمن إعادة الودائع على مدى سنوات بالتقسيط، بالتوازي مع تحفيز النمو واستعادة الثقة وتطبيع القطاع المصرفي بسرعة. الوصول إلى هذا الحلّ يُعيد الدورة الاقتصادية إلى مسارها الطبيعي، ويحسّن الدفعات الشهرية للمودعين، مع الحفاظ على أموالهم ودفعها وفق استحقاقات شهرية محددة”.
ويشير إلى أنّ مسؤولية الدولة في هذا الملف محورية، قائلاً: “الدولة اليوم هي المشكلة، ولا يجب تعميق الفجوة بينها وبين المودعين، لأنّ المسؤولية واضحة عليها. الأهمّ أيضاً هو بناء الثقة، التي تتبع لحماية الودائع وإعادتها لأصحابها على مدى زمني محدّد، ضمن ثلاث ركائز أساسية: تطبيع القطاع المصرفي في التعامل اليومي، إعادة الدورة الاقتصادية إلى الدوران، واستعادة الثقة بالدولة اللبنانية”.
وفي ما يتعلّق بالعلاقات مع المصارف المراسلة الدولية، يشدّد حكيم على أنّ “نسج هذه العلاقات يحتاج سنوات طويلة من التعاون والشفافية والامتثال للقوانين الدولية والثقة المتبادلة، ولا يمكن تحقيقه بين يوم وآخر. أي أنّ الإطاحة بالمصارف الحالية دون وجود بديل موثوق وخطة واضحة قد تؤدّي إلى انقطاع لبنان عن النظام المالي العالمي، وتضرّ بالتحويلات التجارية والمالية، التي تشكّل الركيزة الأولى للاقتصاد اللبناني. الحفاظ على هذه المصارف وإعادة تأهيلها هو الحل الأنسب لضمان استمرار التحويلات من الخارج وحماية الأمن الغذائي والدوائي والقطاع الخاص.”
وبالنسبة لإعادة الملاءة للقطاع المصرفي وأهمية إعادة الهيكلة، يقول حكيم: “معظم المصارف اللبنانية تمتلك ملاءة كافية، لكنها تعاني من نقص في السيولة. إعادة الملاءة والسيولة أمر أساسي لإعادة الثقة. مع إعادة هيكلة واضحة وشفافة، وتعزيز الرساميل واستقطاب استثمارات جديدة، يمكن للمصارف اللبنانية تدريجياً إعادة الأموال للمودعين. من دون إصلاحات بنيوية، لن يكون هناك إمكانية لاستعادة السيولة أو إيداع الأموال بأمان. الحل يتضمن دمج المصارف غير القادرة وتحفيز بيئة قانونية واقتصادية مستقرة، مع مساهمة الدولة في إطلاق الاقتصاد، وليس تحميل الخسائر للمصارف وحدها.
ويضيف حكيم: “أحد الأدوات الأساسية لتحقيق ذلك هو تطبيق ما يُعرف بـ “كاش مانجمنت كنترول”. هذه الآلية تختلف عن الكابيتال كنترول التقليدي، فهي لا تقتصر على تحديد سقوف السحب أو منع التحويلات، بل تتضمّن إدارة دقيقة للسيولة النقدية داخل المصارف لتأمين استقرارها المالي اليومي. الهدف هو تحديد المبالغ الممكن سحبها شهرياً بما يحمي ودائع المودعين، ويمنع التهافت على النقد، ويحدّ من التضخّم، ويتيح للمصارف القيام بعملياتها المصرفية بشكل طبيعي. على سبيل المثال، ضخّ مبلغ يتراوح بين 11 و12 مليار دولار ضمن إطار “كاش مانجمنت كنترول” يمنح المصارف القدرة على تغطية حاجاتها النقدية العاجلة، ويتيح إعادة دفع جزء كبير من الأموال للمودعين بطريقة منظمة وآمنة، دون تهديد استقرار القطاع المصرفي ككل”.
وفي ما يخصّ الشرط الأهمّ للنهوض بالاقتصاد، يؤكد حكيم: “لا يمكن لأي نهوض اقتصادي أو استثمارات دولية أن تتمّ في ظلّ ازدواجية القرار السيادي. اليوم، القرار في السلم والحرب غير موحّد، وهذا يمنع أيّ دولة مانحة أو مستثمر من ضخّ الأموال. استعادة الدولة لسيطرتها على أراضيها واحتكار السلاح شرط أساسي للاستقرار، كما أكد دولة الرئيس نواف سلام، ما يضمن جذب الاستثمارات الخليجية والعربية، التي ستكون الداعم الرئيس للاقتصاد اللبناني.”
وبالنسبة للمسؤولية القانونية للدولة، يقول: “الدولة هي الطرف الأساسي المسؤول، حيث استخدمت أموال المودعين لتمويل العجز والفساد والدعم العشوائي بما يقارب 20 مليار دولار، وتغاضت عن المخالفات والتجاوزات. تحميل المصارف أو المودعين وحدهم هو إنكار للواقع. الحل يتطلب توزيعاً عادلاً للخسائر على الجميع، مع محاسبة المسؤولين داخل الدولة لضمان الشفافية وحسن الإدارة والحوكمة.”
ويختم حكيم تصريحه بالقول: “خطة الإنقاذ ترتكز على الركائز التالية: تطبيع القطاع المصرفي، إعادة الدورة الاقتصادية، استعادة الثقة بالدولة اللبنانية، الحفاظ على الودائع، وإعادة السيولة، وجميعها تختصر بإنهاء أي سلاح غير شرعي واستعادة الثقة الدولية وهي أهدافنا الأساسية وسنعمل عليها بلا تهاون”.




