واشنطن تعمل على تجفيف تمويل “الحزب”… راشد يؤكّد: خطة صندوق النقد “كارثية”

مع غياب المصارف الفاعلة واستفحال اقتصاد الظلّ، تتجه البلاد نحو اقتصاد نقدي مظلم يسهّل التهرّب الضريبي وغسل الأموال، ويقوّض الشفافية المالية ويهدد بعزلة لبنان المصرفية عن الخارج. وفي هذا السياق، أي تطبيق لخطة صندوق النقد الحالية، التي يقوم على شطب الودائع دفعة واحدة، لن يزيد الوضع إلا تفاقمًا، ليصبح المسمار الأخير في نعش الثقة بالنظام المالي اللبناني
كتبت ناديا الحلاق لـ”هنا لبنان”:
في لحظة سياسية ومالية بالغة الحساسية، شكّلت زيارة نائب مساعد الرئيس الأميركي لشؤون مكافحة الإرهاب، سيباستيان غوركا، إلى بيروت مؤشراً على تحول جديد في مقاربة واشنطن للوضع اللبناني، عنوانه العريض: قطع شرايين التمويل غير الشرعي لحزب الله، واستعادة النظام المالي من الفوضى النقدية التي تغرق البلاد منذ انهيار 2019.
لم تكن الزيارة مجرّد محطة دبلوماسية، بل حملت رسائل مباشرة إلى الطبقة السياسية والمالية في لبنان: أنّ واشنطن تتابع بدقة تطوّر اقتصاد الظلّ، الذي تحوّل خلال السنوات الأخيرة إلى شبكة نقدية ضخمة تعمل خارج النظام المصرفي الرسمي.
وبحسب مصادر متابعة، فإنّ لقاءات غوركا مع مسؤولين لبنانيين ومستشارين ماليين تمحورت حول آليات تجفيف تمويل “الحزب” عبر شبكات الصرافة والتحويل النقدي، في وقتٍ تتزايد فيه التحذيرات من انهيار كامل للنظام المصرفي.
اقتصاد الظلّ.. عرض لأزمة أعمق
قبل الغوص في تفاصيل السياسات الاقتصادية المقترحة، من الضروري أولاً توضيح العوامل التي سمحت لاقتصاد الظلّ بالتوسع بهذا الشكل. فالخبراء الاقتصاديون يرون اليوم أنّ ظاهرة اقتصاد الظلّ في لبنان تجاوزت كونها نتيجةً فورية لانهيار البنوك؛ بل باتت منظومة مالية واسعة تعمل إلى حدّ ما لصالح “حزب الله”. وتوضح التحليلات أنّ شبكات الصرافة التي تعمل خارج إطار الرقابة الرسمية أصبحت تمثل قنوات حاسمة لتحريك الأموال وتمويل أنشطة مشبوهة، بما يشمل دعم بنى الحزب داخلياً وخارجياً. وهذه الآليات الحرّة من القيود المصرفية تسمح بتداول مبالغ نقدية كبيرة بطرق تكاد تكون غير قابلة للتتبّع، ما يعمّق هشاشة المنظومة المالية ويكفل بيئة مناسبة للتهرّب الضريبي وغسل الأموال.
كما ويؤكد الخبراء أنّ أيّ محاولة جادة لإصلاح القطاع المصرفي واستعادة ثقة الجمهور لا بدّ أن تتضمّن إجراءات صارمة لاحتواء اقتصاد الظلّ وقطع المسارات التي تستغل لتمويل الأنشطة غير القانونية.
من جهته يقول الخبير الاقتصادي منير راشد لـ”هنا لبنان” إنّ “توجّه التجار والأفراد إلى التعامل النقدي الكامل، ساهم في تحوّل السوق اللبنانية إلى اقتصاد موازٍ خارج رقابة الدولة”.
ويضيف: “كل فئة في البلد، من التجار إلى المؤسسات الكبرى، باتت تعمل بالكاش”.
ويتابع: “هذا الواقع فتح الباب واسعاً أمام توسّع شركات الصرافة، التي أصبحت، بحسب تقارير الخزانة الأميركية، قنوات أساسية لتحويل الأموال وتمويل النشاطات غير الشرعية”.
ففي ظل غياب مصارف عاملة، استُبدلت أكثر من 60 مؤسسة مصرفية بأربع شركات صرافة أساسية، بعضها مرتبط مباشرة بـ“حزب الله” وحلفائه. وهكذا، أصبح التمويل النقدي هو البديل الفعلي للنظام المصرفي الشرعي، ما عمّق الأزمة وزاد من هشاشة الثقة المالية.
خطة صندوق النقد… شطب بلا سيولة
وعلى وقع هذه الفوضى النقدية، جاء النقاش بين مصرف لبنان وصندوق النقد الدولي حول شكل إعادة هيكلة القطاع المصرفي، ليضيف طبقة جديدة من التعقيد.
فبينما تتحدث الحكومة والمصرف المركزي وصندوق النقد عن “الإصلاح والاستقرار”، تكشف التفاصيل تبايناً عميقاً في المقاربة بين الطرفين.
وهنا يرى راشد أنّ خطة صندوق النقد “كارثية”، لأنها تقوم على شطب الودائع دفعة واحدة من دون تقييم واقعي لأوضاع المصارف أو مراجعة للأصول.
ويقول: “بهذه المقاربة، سيُمحى رأس المال بالكامل قبل أي مراجعة، ما يعني عملياً تصفية القطاع المصرفي وملاحقة قانونية جماعية ضد الدولة والمصارف، وانهيار ما تبقّى من الثقة”.
في المقابل، يعتمد مصرف لبنان خطة تدريجية تستند إلى مراجعة نوعية للأصول (AQR) وتطبيق هرمية لتحمّل الخسائر تبدأ بالمساهمين ثم الدائنين وصولاً إلى المودعين كملاذ أخير.
من هنا، يرى راشد أنّ الحلّ الحقيقي لا يكمن في إعادة هيكلة دفترية أو شطب حسابي، بل في ضخ سيولة مباشرة داخل الاقتصاد.
ويشرح أنّ مصرف لبنان يحتفظ باحتياطي يفوق 50 مليار دولار من العملات الأجنبية، بينما تبلغ الودائع نحو 83 ملياراً، ما يتيح إمكان إطلاق خطة سريعة لإعادة الأموال تدريجياً إلى أصحابها.
ويضيف: “بإمكان مصرف لبنان أن يُعيد 25 إلى 30% من الودائع خلال السنة الأولى، على أن ترتفع النسبة إلى 60% خلال عامين، ما يعيد الحركة الاقتصادية ويخفف من لجوء اللبنانيين إلى السوق النقدية”.
ويدعو راشد إلى استخدام جزء من الاحتياطي لإعادة الثقة قبل أن يتلاشى النظام المصرفي بالكامل.
من ظلّ النقد إلى ظلّ السياسة
في الخلاصة، تكشف زيارة غوركا وما تبعها من رسائل مالية أميركية أنّ الاقتصاد اللبناني لم يعد مجرد ملف تقني، بل أصبح ورقة سياسية وأمنية بالغة الحساسية. فواشنطن تسعى لتجفيف مصادر تمويل “حزب الله”، فيما يحاول لبنان إصلاح نظام مصرفي يحتضر، من دون أن يملك الأدوات أو الاستقلال المالي الكافي لذلك.
مع غياب المصارف الفاعلة واستفحال اقتصاد الظلّ، تتجه البلاد نحو اقتصاد نقدي مظلم يسهّل التهرّب الضريبي وغسل الأموال، ويقوّض الشفافية المالية ويهدد بعزلة لبنان المصرفية عن الخارج. وفي هذا السياق، أي تطبيق لخطة صندوق النقد الحالية، التي يقوم على شطب الودائع دفعة واحدة، لن يزيد الوضع إلا تفاقمًا، ليصبح المسمار الأخير في نعش الثقة بالنظام المالي اللبناني.




