هل تُفرج إيران عن “الحزب”؟!

في منعطف حاسم من تاريخه، يجدُ “الحزب” نفسه في عين العاصفة، مكشوفًا أمام ضغط إسرائيلي – أميركي غير مسبوق. فالاغتيالات والضربات اليومية في الجنوب والبقاع تحولت استنزافًا مُمنهجًا لوجوده، وتحدّيًا لصدقيّته أمام بيئته، ما يستدعي سؤالًا طارئًا: هل سيبقى “الحزب” قانعًا بما يتعرّض له؟ وإلى متى؟
كتب طوني عيسى لـ”هنا لبنان”:
دخل “حزب الله” في وضعٍ مصيريّ بامتياز، هو وبيئته الاجتماعية وشيعة لبنان عمومًا. فإخلاءُ بعض القرى، ونزوح الأهالي من قرى أخرى خوفًا من انفجار جديد، لا يُعبّران فقط عن خسارة ديموغرافية، بل أيضًا عن انهيار جدار الاطمئنان إلى مناعة “الحزب” وإلى مدى قدرته على حماية البيئة التي لطالما اعتمدت عليه. والدليلُ أنّه لم يردّ على إسرائيل برصاصة واحدة طوال عام مضى، على الرَّغم من الضربات المتواصلة التي يتعرّض لها.
يعاني “الحزب” إرباكًا غير مسبوق. وهذا مبرّر، لأنّ المشهد المحلي والإقليمي الحالي غير مسبوق. وتتعالى أصواتٌ في داخله، تنادي أحيانًا بضرورة اللجوء إلى حدّ أدنى من الردّ على إسرائيل، حفاظًا على معنويات البيئة الشيعية. لكنّ الغلبة هي لالتزام الصمت، لأنّ عواقب الرد قد تكون انتحاريةً في هذه الظروف.
ينظر “الحزب” حوله فيجد أنّ “حماس” قد انهارت تمامًا في غزّة، ويتذكّر أنّه من أجلها أشعل “جبهة المساندة” ذات يوم بما أورثته الكوارث. وينظر شرقًا فيجد أن حليفَه بشار الأسد قد رحل ليحلّ محله حكم مناوئ، وربّما يحاصره في البقاع، أو يهدد عمقه الاستراتيجي، بعدما قطع عنه جسر السلاح والمال من إيران.
وأمّا في العراق، فالشيعة صامتون يُحاولون تجنّب أي مشكلة مع واشنطن، فيما تراجع حراك الحوثيين بعد الضربات الأميركية الموجعة. وفي اختصارٍ، يشعر “حزب الله” وشيعة لبنان بأنّهم في “فوهة المدفع” بمفردهم، على أنقاض ما كان يسمّى ذات يوم “محور المقاومة”.
وفوق ذلك، تخوض طهران نفسها مفاوضاتٍ سريةً مع واشنطن، في سلطنة عُمان وغيرها، لا أحد يعرف مضامينها، ما يزيد المشهد إرباكًا. فهل يكون “حزب الله” و”حماس” وسواهما أوراقًا على طاولة النووي الإيراني والنفوذ والتطبيع الإقليميين؟
تقف إيران اليوم أمام معضلةٍ استراتيجيةٍ بين خيارَيْن:
1 – الإبقاء على “حزب الله” كـ”رأس صاروخ” وقوة ردع مباشرة على حدود إسرائيل وشاطئ المتوسط، ضمانًا لاستمرار نفوذها كقوة إقليمية عظمى. لكنّ كلفة ذلك هي استنزاف الوجود الشيعي اللبناني وتهديد بقائه الاجتماعي، ما قد يؤدّي إلى خسارة أهمّ قاعدة شعبية تملكها إيران في المنطقة.
2 – الإفراج عن “الحزب” والسماح له بإعادة ترتيب أولوياته، والانسحاب التكتيكي من الصراع، بهدف الحفاظ على وجود الشيعة كمكوّن لبناني. وهذا يعني خسارة إيران لورقة نفوذها المباشر على حدود إسرائيل، وتراجع تمدّدها على المتوسط.
فـ”الحزب” ليس مجرّد ميليشيا، بل هو الضمانة الجغرافية للنفوذ الإيراني في اتجاه الغرب. لذلك، إنّ نيّة الإبقاء على هذا النفوذ هي من المسلّمات الاستراتيجية في طهران، لكن الطريقة الفضلى لتحقيق هذه الغاية، وبأقلّ ما يُمكن من أضرار، هي التي تستحوذ اليوم مقدارًا واسعًا من النقاش. وفي هذا السياق، يُمكن فَهم زيارة المعاون السياسي للرئيس نبيه بري علي حسن خليل إلى طهران، والتي تتمّ تحت عنوان: خصوصيّة الوضع الشيعي المهدّد في لبنان.
في تقدير بعض النّخب أنَّ استمرار النزف الحالي سيقود إلى نتائج كارثية بعيدة المدى على المكوّن الشيعي في لبنان، كوجودٍ ديموغرافيّ وجغرافيّ وسياسيّ، بخسارة “الثنائي” لمؤسّسات الدولة بعد انتخابات 2026. وهذا ما يستدعي إعادة تموضع عاجلة للطائفة في خانة “المكوّن اللبناني” لا “رأس الحربة الإيرانية”.
كيف سيكون ردّ طهران؟ يقول المطّلعون: على الأرجح، لن يكون قرارها “إفراجًا” كاملًا عن “الحزب”. فهي قد تسمحُ بحركةٍ تفاوضيةٍ محدودةٍ مع إسرائيل والأميركيين، برعاية بري، لتثبيت قواعد اشتباك جديدة توقف الاغتيالات والاستنزاف، وتسمح بوقف فعلي للنار، حفاظًا على البيئة الشيعية. وفي المقابل، ستجعلُ “الحزب” جبهة ردع استراتيجية صامتة في مدًى معيّنٍ، وتعمل خلاله على إعادة بناء ما خسره هو وبيئته، مع منح الأولوية لتثبيت الوجود الداخلي في مواجهة التغيّرات السياسية المقبلة، وأبرزها الانتخابات.
المعادلةُ كما يراها دبلوماسي عريق هي الآتية: تحتاج إيران اليوم إلى “حزب الله” أكثر ممّا يحتاج هو إليها. ففي حال انهيار “الحزب”، ستكون خسارتها الاستراتيجية لا تعوّض. ولذلك، ثمة مَن يعتقد أنّ الإيرانيين سيصغون إلى نداء بري، لكنّهم لن يقطعوا خيط التحكّم بالواقع الشيعي، وسيحوّلون “رأس الصاروخ”، أي “حزب الله”، من وضع الإطلاق الفوري إلى وضع التأهّب الاستراتيجي.
قد يكون الإفراج الجزئي عن “الحزب” هو الثمنُ الذي تدفعه إيران للحفاظ على وجودها على شاطئ المتوسط وحدود إسرائيل، حتى وإن أصبح وجودًا أقلَ ضجيجًا. لكنّ سؤالاً آخر، أكثر إلحاحًا، سيُطرح في هذه الحال: ما مدى استعداد إسرائيل، التي تشعر اليوم بفائق القوة، لتقبّل هذه الاستراتيجية الصامتة والجامدة ظرفيًا، ما دامت ستُهيّئ الأرضية لانفجارٍ أكبر بكثير؟.
مواضيع مماثلة للكاتب:
“الحزب” في جوف “الميكانيزم” | “صلاة الاستسقاء” لمنع الحرب! | متى سيردّ “الحزب” على إسرائيل؟! |




