نفوذ “كلنا إرادة” يسيطر على الفجوة المالية… ومصير ودائع اللبنانيين في المجهول!

يقف لبنان اليوم أمام لحظةٍ مفصليةٍ لا تحتمل المزيد من الارتجال أو فرض المسارات من خلف الستار. فقانون الفجوة المالية ليس تفصيلًا عابرًا في مشهد الانهيار، بل هو الإطار الذي سيحدّد لسنوات طويلة كيفية توزيع الخسائر، ومَن سيدفع الثمن، وكيف سيُعاد ترميم ما تبقّى من الثقة بالنظام المالي. وبين لجانٍ تُصاغُ بعيدًا عن الضوء، ومجموعات ضغط تتقدّم حيث تتراجع الدولة، ومودعين مُعلّقة ودائعهم في المجهول، يبدو أنّ البلاد تتجه نحو صدام حتمي بين رؤيتَيْن: رؤية مؤسّساتية شفّافة تُعيد بناء النظام الاقتصادي، ورؤية تُدار في الكواليس قد تفتح الباب أمام فوضى مالية جديدة.
كتبت ناديا الحلاق لـ”هنا لبنان”:
يخوض لبنان اليوم معركةً صامتةً تتجاوز حدود الأرقام والبيانات، لتصلَ إلى صميم السلطة الحقيقية على مستقبل النظام المالي. فداخل الغرف المُقفلة، تدور معركة حساسة حول صياغة قانون “الفجوة المالية”، وسط معلومات تؤكد أنّ القرار لم يعد بيدِ المؤسسات الدستورية فحسب، بل انتقل إلى لجنةٍ ثلاثيةٍ صغيرةٍ اختارتها رئاسة الحكومة بالتنسيق مع وزير المال، وتضمّ شخصياتٍ تقول مصادر نيابية إنّها محسوبة على مجموعة “كلنا إرادة” التي بات نفوذُها يتوسّع في مفاصل القرار الاقتصادي.
هذه المعطيات فجّرت موجة استنفار داخل الأوساط النيابية، التي ترى في هذه الخطوة محاولةً واضحةً لتحويل أحد أخطر القوانين إلى مشروعٍ يُدار بعقل واحد ورؤية واحدة، بعيدًا عن التوازن المطلوب، خصوصًا أنّ “كلنا إرادة” بحسب منتقديها تحمل مشروعًا جذريًا لتوزيع الخسائر يُخشى أن يضرب ما تبقّى من القطاع المصرفي ويطيح بجزءٍ كبيرٍ من حقوق المودعين تحت عنوان “الإصلاح”.
اللافت أكثر، وفق المصادر نفسها، هو استبعاد “جمعية المصارف” بالكامل عن عملية الصياغة، في وقتٍ يقود فيه وزير المال ياسين جابر اجتماعاتٍ منفردةً مع بعض المصرفيين، ما فتح الباب أمام تساؤلاتٍ خطيرةٍ حول مسار تفكيك القطاع والتعامل معه على القطعة لا كمؤسسة واحدة. ويذهب البعض إلى القول إنّ ما يجري هو إعادة رسم للنظام المالي على يد مجموعة صغيرة تُمسك بخيوط اللعبة من خلف الستار.
وبحسب مراقبين، تُثير علاقة رئيس الحكومة نواف سلام بمجموعة “كلنا إرادة” جدلًا واسعًا، إذ يعتبرها الكثيرون حلقة وصل قوية تحدّد توجّهاته السياسية والاقتصادية. فقد بدا واضحًا أنّ الارتباط الوثيق بهذه المجموعة لا يقتصر على التشاور، بل يمتدّ إلى درجة التأثير المباشر في صياغة السياسات المالية، بما في ذلك قانون “الفجوة المالية”. ويعتبر النقّاد أنّ هذه العلاقة تفتح الباب أمام ما يشبه الاحتكار التشريعي، حيث تتحوّل مجموعة محدودة إلى صانع قرارٍ فعلي، بعيدًا عن المؤسّسات الرسمية ومن دون إشراك الأطراف المعنية مثل جمعية المصارف والخبراء الماليين المستقلّين. ويقول المراقبون إنّ هذا التزاوج بين السلطة التنفيذية ومجموعة ضيّقة يضاعف مخاطر فرض مقاربة أحادية، قد لا تتوافق مع الواقع الاقتصادي اللبناني، وقد تهمّش مصالح المودعين والمصارف على حَدٍّ سواء، ما يعكس انحرافًا خطيرًا عن مبدأ الشفافية والتوازن المؤسّسي.
وسط هذا المشهد، يقف اللبنانيون بقلق أمام قانون يُحدّد مصير ودائعهم يُكتب بعيدًا عن الأضواء، في يد لجنةٍ تدور حولها علامات استفهام، وبحضور تأثيرٍ مُتعاظمٍ لمجموعة “كلنا إرادة” التي تحضر حيث تغيب الدولة، وتُسمع كلمتها حيث يفترض أنْ تكون الأولوية للمؤسسات الشرعية. فهل نحن أمام إصلاح أم إعادة هندسة كبرى تُرسم خارج الرقابة؟ ومَن يملكُ حق تقرير مصير مليارات اللبنانيين… الحكومة أم لجان الظلّ؟
في هذا السياق، يبرز تحذير لافت من وزير الاقتصاد الأسبق آلان حكيم الذي يضع الإصبع على مكمن الخطر ويقول عبر “هنا لبنان”: “استبعاد جمعية المصارف من عملية التشاور يُعَدُّ إشارة سلبية إلى نهج إقصائي لا يبشّر بحلول عادلة أو مستدامة. الإصلاح الحقيقي يتطلّب مشاركة جميع المكوّنات المعنية، وإقصاء أحد أبرز أركان الدورة الاقتصادية يشير إلى محاولة فرض مقاربة أحادية قد تهدّد الاستقرار المالي وتُقوّض فرص التعافي”.
ويضيف: “إذا لم يتمّ ضبط تأثير هذه المجموعات ضمن إطار مؤسّساتي خاضع للمساءلة والشفافية، فقد تتحوّل إلى أدوات ضغط تُملي سياسات غير متجانسة مع الواقع اللبناني، وتُكرّس النهج العشوائي في معالجة الأزمة. المطلوب هو خطةُ تعافٍ متكاملة تُبنى على التوازن بين الحقوق، وتحميل المسؤوليات حسب التسلسل المؤسّساتي والقدرات، وليس عبر مقاربات شعبوية أو تصفوية تخدم أجندات ضيقة”.
ويتابع: “يطرح تكليف جهات غير رسمية كـ”كلّنا إرادة” إذا صحّ الخبر تساؤلاتٍ جوهريةً حول شفافيّة العملية التشريعية ومدى التمثيل الحقيقي لمصالح الأطراف المعنية. فالقوانين التي تمسّ البنية المالية للدولة يجب أن تُبنى على توافق مؤسّساتي ومشوَرة خبراء ماليين مستقلين وهيئات رسمية مثل مصرف لبنان وجمعية المصارف، تفاديًا لأي انحراف في الأهداف أو تعارض في المصالح”.
ويقول حكيم: “السيناريو لتدخلات جانبية هادفة إلى مصالح خاصة وارد، خصوصًا إذا تمّ تهميش أصحاب العلاقة المباشرة، ما قد يؤدّي إلى إقرار حلول غير متوازنة تنعكس سلبًا على المودعين والمصارف على حَدٍّ سواء. فرض مقاربة تستهدف رساميل المصارف وتُنهي الودائع بلا مسار واضح لإعادة هيكلة الدولة ومؤسّساتها، قد يُنتج اقتصادًا فوضويًا يعتمد على الكاش، ويفقد الثقة بالنظام المالي ككل. المهم الشفافيّة والحوْكمة والإدارة الرشيدة في طرح حلول لحماية المودع والقطاع ككل”.
في المُحصّلة، يقف لبنان اليوم أمام لحظةٍ مفصليةٍ لا تحتمل المزيد من الارتجال أو فرض المسارات من خلف الستار. فقانون الفجوة المالية ليس تفصيلًا عابرًا في مشهد الانهيار، بل هو الإطار الذي سيحدّد لسنوات طويلة كيفية توزيع الخسائر، ومن سيدفع الثمن، وكيف سيُعاد ترميم ما تبقّى من الثقة بالنظام المالي. وبين لجانٍ تُصاغُ بعيدًا عن الضوء، ومجموعات ضغط تتقدّم حيث تتراجع الدولة، ومودعين مُعلّقة ودائعهم في المجهول، يبدو أنّ البلاد تتجه نحو صدام حتمي بين رؤيتَيْن: رؤية مؤسّساتية شفّافة تُعيد بناء النظام الاقتصادي، ورؤية تُدار في الكواليس قد تفتح الباب أمام فوضى مالية جديدة.
وإذا لم تعدْ العملية التشريعية إلى مسارها الطبيعي تحت سقف المؤسّسات، بمشاركةِ كل المعنيين من مصرف لبنان إلى جمعية المصارف والخبراء المستقلين، فإنّ أي قانون يُفرض من خارج الإجماع لن يُنتج إلا مزيدًا من الانقسام، ومزيدًا من القلق، ومزيدًا من النزيف. فاللبنانيون الذين ينتظرون حلولًا حقيقية، سئموا الشعارات، ولم يعد لديهم ترف التجارب أو المغامرات. وحدها الشفافية والحوْكمة والمُحاسبة يمكن أن تضع البلاد على طريق التعافي الحقيقي، وتمنع تحويل أزماته إلى فرصة جديدة لأصحاب النفوذ والمصالح الضيّقة.
لبنان اليوم أمام مفترق… والطريق إلى الخلاص لا يمرّ إلّا عبر دولة تُعيد الإمساك بقرارها، وقوانين تُكتب على عين المواطن لا على مقاس غرف مغلقة.
مواضيع مماثلة للكاتب:
سلاح “الحزب” يجرّ لبنان إلى الدمار: التفكيك أو الحرب | تلاعب في البيانات المالية يهدّد تعويضات الأساتذة في المدارس الخاصة | المودعون في مرمى السياسات المالية الفاشلة: الدولة تتحمّل المسؤولية الأولى |




