عامٌ على سقوط الأسد: أين تقف الملفات العالقة بين لبنان وسوريا؟

بعد عام على سقوط الأسد، تظهر أمام لبنان فرصة نادرة لبناء علاقة ندّية وعادلة مع سوريا الجديدة، علاقة تقوم على احترام السيادة والقانون، وتستند إلى معالجة جدية للملفات العالقة. لكن هذه الفرصة لن تكتمل من دون موقف لبناني موحّد، وانفتاح سوري على الاعتراف بمسؤوليات الماضي، ورعاية عربية ودولية تضمن إلزامية أي اتفاق.
كتب جو أندره رحال لـ”هنا لبنان”:
عامٌ مرّ على سقوط نظام بشار الأسد، لكن التحوّل الجذري الذي شهدته دمشق لم ينعكس بالقدر نفسه على العلاقات اللبنانية–السورية. فالتغيير السياسي في سوريا فتح صفحة جديدة، لكنه لم يُقفل الصفحات القديمة التي لا تزال تتحكّم بمسار العلاقة بين البلدين، من النزوح إلى الحدود، ومن الموقوفين إلى المفقودين. واليوم يقف لبنان أمام فرصة تاريخية لإعادة بناء علاقة متوازنة مع سوريا الجديدة، شرط أن تُدار الملفات العالقة برؤية واضحة لا بمنطق التسويات الظرفية.
يبقى النزوح السوري العقدة الأكبر أمام لبنان. فوجود ما يفوق المليون نازح على أرضه، في ظل انهيار اقتصادي خانق، حمّل الدولة والمجتمع أعباءً تتجاوز 40 مليار دولار خلال أكثر من عقد. ورغم تحسّن الوضع الأمني في سوريا وبدء عودة تدريجية للنازحين من دول الجوار، فإنّ العودة من لبنان تبقى بطيئة ومحدودة نتيجة غياب ضمانات سورية رسمية تحمي العائدين من الاعتقال أو الانتقام، ورفض المجتمع الدولي تمويل أي عودة لا تُصنَّف “طوعية”، إضافة إلى غياب خطة لبنانية–سورية مشتركة تربط العودة بإعادة الإعمار. وبين مخاوف اللبنانيين من تثبيت واقع ديموغرافي جديد، وضغوط المجتمع الدولي، يبقى النزوح ملفًا مفتوحًا على كل الاحتمالات من دون رؤية مشتركة واضحة.
وفي موازاة ذلك، يبرز ملف الموقوفين السوريين في لبنان بوصفه أحد أكثر الملفات حساسية. فآلاف السوريين أوقفوا خلال الحرب، بعضهم بجرائم جنائية وآخرون بملفات أمنية أو سياسية. ومع تغيّر النظام في دمشق عاد البحث في هذا الملف، لكن المعالجة ما زالت معقدة، لأنّ أيّ اتفاق على تسليم الموقوفين أو محاكمتهم في سوريا الجديدة يجب أن يضمن محاكمات عادلة لا تشكّل شكلًا من أشكال الترحيل القسري خارج رقابة القضاء اللبناني. هذا الملف هو اختبار مباشر لقدرة البلدين على بناء علاقة تقوم على احترام القانون لا على صفقات أمنية.
أما الجرح الأكثر عمقًا في الذاكرة اللبنانية فيبقى ملف المفقودين. فمئات العائلات ما زالت تجهل مصير أبنائها الذين اختفوا في السجون والمعتقلات السورية خلال الحرب الأهلية ومرحلة الوجود السوري في لبنان. وقد أتاح سقوط النظام فتح بعض الأرشيفات الأمنية، ما كشف معلومات جديدة عن مواقع دفن ومراكز اعتقال، لكنه لم يقترب بعد من الحقيقة الكاملة. ولا يمكن للبنان أن يبدأ صفحة جديدة مع سوريا من دون لجنة تحقيق مستقلة ذات صلاحيات واسعة وبضمانات عربية ودولية، وصولًا إلى كشف المصير وتحديد المسؤوليات وتعويض العائلات. فالذاكرة لا تُمحى بتغيير نظام، ولا تُبنى المصالحة فوق القبور المجهولة.
وتأتي الحدود لتشكّل بدورها أحد أعقد الملفات بين البلدين، خصوصًا أنّ لبنان، الذي أنجز ترسيم حدوده البحرية مع إسرائيل عام 2022 ووقّع اتفاق الترسيم البحري مع قبرص عام 2025، لا يزال يفتقر إلى ترسيم كامل لحدوده البرية والبحرية مع سوريا. هذا الغياب التاريخي خلق اقتصاد تهريب ضخمًا استغلّته شبكات مرتبطة بقوى سياسية وأمنية في البلدين، وسمح بانتقال السلاح والبضائع والبشر من دون رقابة. ومع تغيّر السلطة في دمشق، تصبح الفرصة سانحة لإنهاء هذا الملف عبر ترسيم رسمي للحدود يوقف اقتصاد التهريب، ويعيد ضبط المعابر غير الشرعية، ويُرسّخ سيادة الدولة اللبنانية. أما بحريًا، فإنّ الترسيم شمالًا بات ضرورة اقتصادية وأمنية مع اشتداد الصراع حول غاز شرق المتوسط، ما يتطلب تفاوضًا دقيقًا يحمي مصالح لبنان الاستراتيجية على المدى الطويل.
غير أنّ الملفات الأربعة الكبرى ليست وحدها ما يعيد رسم العلاقة بين البلدين، فالتغيير في دمشق ينعكس تلقائيًا على الداخل اللبناني، وخصوصًا في ما يتعلّق بدور حزب الله الذي شارك لعقد كامل في الحرب السورية، وبمستقبل التعاون الأمني على الحدود، وبمصير شبكات التهريب التي ازدهرت خلال سنوات النزاع. كذلك تبرز أسئلة حول إعادة تنظيم العلاقات التجارية، والطاقة، والدبلوماسية، بما يجعل المرحلة المقبلة أكثر تعقيدًا مما تبدو عليه على السطح.
بعد عام على سقوط الأسد، تظهر أمام لبنان فرصة نادرة لبناء علاقة ندّية وعادلة مع سوريا الجديدة، علاقة تقوم على احترام السيادة والقانون، وتستند إلى معالجة جدية للملفات العالقة. لكن هذه الفرصة لن تكتمل من دون موقف لبناني موحّد، وانفتاح سوري على الاعتراف بمسؤوليات الماضي، ورعاية عربية ودولية تضمن إلزامية أي اتفاق. فإمّا أن تُطوى الملفات التاريخية بطريقة عادلة فتبدأ مرحلة تعاون جديدة، وإمّا أن تبقى الأزمات تتوارث نفسها ويظلّ لبنان يدفع ثمن الجغرافيا والتاريخ بدل تحويلهما إلى فرصة للاستقرار. سوريا تغيّرت… فهل تتغيّر العلاقة معها؟ هذا هو السؤال الذي سيحدّد معالم المرحلة المقبلة.




