التوقيف الاحتياطي: عقوبة اللاعدالة


خاص 27 كانون الأول, 2025

أزمة التوقيف الاحتياطي لا تعكس خللاً إجرائياً عابراً، بل إمعاناً في ضرب العدالة. دولة تسجن أكثرية نزلاء سجونها بلا أحكام، هي دولة تعاقب قبل أن تُحاكم، وتُدين قبل أن تسمع. وفي ظل هذا الواقع، يبقى التوقيف الاحتياطي في لبنان عنواناً لعدالة معلّقة… وسجن بلا حكم!

كتب يوسف دياب لـ”هنا لبنان”:

في لبنان، لا يحتاج المرء إلى حكم قضائي ليُسجن. يكفي قرار توقيف، أو إشارة من نيابة عامة، ليبدأ فصل طويل من الاحتجاز المفتوح على المجهول.

التوقيف الاحتياطي، الذي يفترض أن يكون إجراءً استثنائياً ومحدوداً زمنياً، تحوّل إلى عقوبة مكتملة الأركان تُنفَّذ قبل المحاكمة، وغالباً بدلها. والنتيجة صادمة: نحو ثلثي نزلاء السجون في لبنان موقوفون بلا أحكام، في انتهاك فاضح لأبسط قواعد العدالة.

هذه الأرقام ليست تفصيلاً تقنياً، بل دليل إدانة لعدالة فقدت بوصلتها. فبدلاً من أن تكون الحرية هي القاعدة والتوقيف هو الاستثناء، انقلبت المعادلة رأساً على عقب. آلاف الأشخاص يقبعون خلف القضبان لأشهر وسنوات، من دون أن يمثلوا أمام قاضٍ، أو أن تُحدَّد جلسة لمحاكمتهم، أو حتى أن يُبتّ بطلبات إخلاء سبيلهم.

في قلب هذه الأزمة، تقف النيابات العامة التي توسّعت بشكل غير مسبوق في قرارات التوقيف، متجاوزةً السقوف القانونية المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات الجزائية. توقيفات تُتّخذ على عجل، من دون تعليل كافٍ، ومن دون مراعاة لبدائل قانونية واضحة، كترك المدّعى عليه بسند إقامة أو إخضاعه لمراقبة قضائية. وغالباً ما يُبرَّر هذا التوسّع بذريعة “ماهية الجرم ودواعي التحقيق”، فيما الواقع يُظهر تحقيقات بطيئة وتوقيفات طويلة.

الأخطر أنّ التوقيف بات يُستخدم كأداة ضغط غير معلنة: ضغط على الموقوف لانتزاع اعتراف، أو على عائلته، أو حتى كرسالة ردع عامة. وفي بلد يُعاني انهياراً اقتصادياً واجتماعياً، يتحوّل التوقيف الاحتياطي إلى سلاح موجّه حصراً نحو الفقراء، الذين لا يملكون كلفة توكيل محامٍ، ولا “واسطة” سياسية، ولا قدرة على “فكّ أسرهم” بقرار سريع.

لا يقلّ خطورة عن ذلك استمرار بعض الأجهزة الأمنية في اعتماد مذكرات الإخضاع، رغم إلغائها رسمياً بقرار حكومي، ورغم التعاميم الصريحة الصادرة عن النائب العام التمييزي التي أكدت عدم قانونيتها. هذا الانقلاب العملي على القانون يكشف فجوة عميقة بين النص والتطبيق، ويطرح سؤالاً خطيراً: من يحكم فعلياً في مرحلة التوقيف، القضاء أم مذكرات إخضاع استنسابية.

ثم تأتي الحلقة الأكثر إيلاماً: بطء الإجراءات أمام قضاة التحقيق، والترهّل المزمن في عمل المحاكم. جلسات تُؤجَّل لأسباب شكلية، ملفات تتراكم، نقص في عدد القضاة، وشلل إداري يجعل التوقيف يتمدّد تلقائياً، من دون قرار قضائي واضح بتمديده أو رفعه. وهكذا، يصبح الوقت نفسه أداة عقاب.

أزمة التوقيف الاحتياطي لا تعكس خللاً إجرائياً عابراً، بل إمعاناً في ضرب العدالة. دولة تسجن أكثرية نزلاء سجونها بلا أحكام، هي دولة تعاقب قبل أن تُحاكم، وتُدين قبل أن تسمع. وفي ظل هذا الواقع، يبقى التوقيف الاحتياطي في لبنان عنواناً لعدالة معلّقة… وسجن بلا حكم.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us