سلام يسخّر الدستور في خدمة الإرادة التدميريّة!

يقف مجلس النواب أمام مسؤوليّة تاريخيّة: إمّا أن يتحوّل إلى شريك في تكريس فجوة دستورية ومالية، وإمّا أن يمارس دوره في حماية الدستور وحقوق الناس، عبر ردّ مشروع قانون وُلد مُشوّهًا، وإعادة فرض منطق الدولة والقانون فوق كل إرادة تدميرية يستقتل نوّاف سلام لتكريسها.
كتب طوني كرم لـ”هنا لبنان”:
دخل نواف سلام إلى نادي رؤساء الحكومات متسلحًا بسيرته الأكاديمية والقضائية، وبصورة رجل الدستور والقانون. غير أنّ اختبار مقاربته للملفات المالية – الاقتصادية سرعان ما عرّته وكشفت زيف ادّعاءاته. الدكتور المتأبّط المستجدّ للكتاب، أي الدستور، أول مَن أمعن في خرقه، مُغلّبًا إملاءات “الإرادة الهدّامة” وأجندتها التدميرية للاقتصاد على الانتظام المؤسّساتي المطلوب للحكومة. المخالفة الدستوريّة حذّر منها النائب قبلان قبلان، وأكّدها الخبير الدستوري والقانوني سعيد مالك لـ”هنا لبنان”.
لم يعد خافيًا أنّ مشروع قانون “الفجوة المالية” بصيغته الحالية يكرّس مخططًا مشبوهًا لنسف أموال المودعين والمستثمرين ونقابات المهن الحرة في لبنان. أطاح سلام وفريقه بملاحظات جميع المعترضين، وسارع إلى تبنّي مشروع قانون كرّس فجوةً قانونيةً دستوريةً في سجّل القاضي المُنزّه، وكأنّه ارتأى تسديد دفعة من التزاماته المشبوهة للخارج، على حساب أصحاب الحقوق، واضعًا إياهم في مواجهة مفتوحة ومجهولة لاسترداد أموالهم.
تأييد حكومة نواف سلام في سعيها لنزع السلاح الميليشياوي وبسط سلطتها على كامل الأراضي اللبنانية، لا يمنحها شيكًّا على بياض لتمرير قوانين مالية مصيرية خلافًا للأصول الدستورية المتّبعة، ولا يبرّر التغاضي عن مشروع يُهدّد ما تبقّى من ثقة بالاقتصاد والنظام المصرفي، ويُصادر ودائع اللبنانيين تحت عناوين إصلاحية فضفاضة.
قانونيًّا، الإشكالية لا تقف عند مضمون المشروع فقط، بل تبدأ من طريقة إقراره. فالدستور اللبناني واضح في مادته الـ18 لجهة مسار القوانين، وفي المادة الـ65 لجهة آلية اتخاذ القرارات داخل مجلس الوزراء. مشروع “الفجوة المالية” لا يمكن اعتباره قرارًا عاديًا، بل يدخل حكمًا في خانة الخطط الإنمائية الشاملة والطويلة الأمد، لما له من أثر مباشر في مجمل الاقتصاد، والمالية العامة، والاستقرار الاجتماعي. وبالتالي، كان يُفترض أن يحظى بموافقة ثُلثي أعضاء الحكومة، لا أن يُمرَّر بأكثريةٍ عاديةٍ وكأنّه إجراء إداري عابر.
هذا الخرق الدستوري شكّل محور تحذير الخبير الدستوري والقانوني المحامي سعيد مالك، الذي شدّد لـ “هنا لبنان” على أنّ تجاهُل نصاب الثلثين يُفقد المشروع مشروعيّته منذ لحظة ولادته. فالقانون، بصيغته الحالية، ليس مجرّد أداة تنظيمية، بل خطة مالية شاملة تُعيد رسم العلاقة بين الدولة والمصرف المركزي والمصارف والمودعين، ما يفرض احترام أعلى درجات المشروعيّة الدستوريّة. وإذ يلتقي مالك مع توصيف النائب قبلان قبلان، يخلص إلى نتيجةٍ واحدةٍ: على مجلس النواب أن يرفض استلام مشروع أُحيل إليه خلافًا للدستور.
النائب قبلان قبلان ذهب أبعد من ذلك، واضعًا الحكومة أمام سؤال جوهري: هل تُعتبر معالجة “الفجوة المالية” مسألةً ثانويةً أم أساسيةً؟ فإنْ كانت ثانويةً، فذلك استخفاف بحقوق ملايين اللبنانيين. وإنْ كانت أساسيةً، وهو الواقع، فإنّ تمريرها خارج نصاب الثلثين يشكّل مخالفةً دستوريةً فاضحةً. كما نبّه إلى عبثية المقارنة بين أهمية هذا المشروع وتعيينات إدارية تحتاج وحدها إلى أكثرية موصوفة، فيما يُراد لقانونٍ يمسّ مصير شعبٍ بأكمله أن يُقَرَّ بخفّة سياسية مريبة.
اقتصاديًا وسياسيًا، تتجاوز فجوة حكومة نواف سلام الإطار الدستوري إلى جوهر المشروع نفسه. فالقانون المُقترح لا يقدّم أرقامًا واضحةً للفجوة المالية، ولا يشرح منهجية احتسابها، ولا يحدّد المسؤوليات بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف.
الأخطر أنّه يقوم على تمييز صارخ بين المودعين، ويكرّس مَنطق “عفا الله عمّا مضى” عبر غياب أي آليّة جدّية للمحاسبة متلازمة مع الإصلاح. بذلك، يتحوّل القانون إلى مظلةٍ حمايةً لـ”صنّاع الأزمة”، وإلى أداة شطب تدريجي للودائع، لا إلى مدخل لـ”تعافٍ مالي حقيقي”.
التسرّع في إقرار المشروع، ونبْرة الاستعلاء في مواجهة منتقديه، يعكسان ارتباكًا سياسيًا أكثر ممّا يعكسان رؤية إصلاحية. وهو ارتباك يتقاطع مع ضغوط داخلية تديرها جمعية “كلنا إرادة” – الهدّامة، ومع إملاءات خارجية، برزت مع التأييد الفرنسي لتشريع الفجوة الدستورية، والتي تسعى من خلالها فرنسا – إيمانويل ماكرون، إلى إعادة تشكيل النظام المصرفي بما يخدم نفوذها ومصالحها في لبنان والمنطقة.
أمام هذا المشهد، يقف مجلس النواب أمام مسؤوليّة تاريخيّة: إمّا أن يتحوّل إلى شريك في تكريس فجوة دستورية ومالية، وإمّا أن يمارس دوره في حماية الدستور وحقوق الناس، عبر ردّ مشروع قانون وُلد مشوّهًا، وإعادة فرض منطق الدولة والقانون فوق كل إرادة تدميرية يستقتل نوّاف سلام لتكريسها.
مواضيع مماثلة للكاتب:
من بيروت إلى أورشليم: سبع سنوات لصناعة السلام والصلاة | أخطبوط الإرهاب بلا حدود يهدّد أمن العالم من غزّة إلى سيدني! | الوقت يختبر السلطة: لا مراوغة مع السلام! |




