حين تُبرّئ الدولة نفسها وتُدين المودعين: قانون الفجوة المالية نموذجًا!

المتضرّر الأكبر من مشروع “الفجوة” هو أصحاب الودائع المتوسطة والمرتفعة، الذين يشكّلون العمود الفقري للحركة الاقتصادية والاستثمارية، فالمودع الذي يملك 200 ألف دولار سيتقاضى مبالغ شهرية متدنّية تفقد قيمتها الشرائية تدريجيًا، ولن يستعيد فعليًّا سوى جزءٍ محدودٍ من أمواله بعد سنوات طويلة. أمّا أصحاب الودائع الأكبر، فسيواجهون تراجعًا سنويًا مستمرًّا في قيمة ما يتقاضونه.
كتبت ناديا الحلاق لـ”هنا لبنان”:
في خضمّ الأزمة المالية العميقة التي تعصف بلبنان منذ سنوات، يقف المودعون والمصارف في مواجهة واقعٍ قاسٍ، حيث تُجمَّد الودائع، وتتراجع قيمة الأموال، ويُصبح مستقبل القطاع المصرفي والاقتصاد الوطني على المحكّ. وفي هذا السياق، يأتي إقرار قانون الفجوة المالية كخطوة تشريعية يُفترض أن تعالج الفجوة المالية الضخمة، إلّا أنّ التطبيق العملي لهذا القانون يُثير الكثير من الشكوك والتحفظات، خاصةً أنّ المودعين، الذين لم يكونوا سببًا في الأزمة، والمصارف التي تكافح للحفاظ على ما تبقّى من أصولها، سيتحمّلون العبء الأكبر للخسائر، فيما الدولة ستظل بعيدةً عن المحاسبة الفعلية على دورها في الانهيار المالي.
فالمسؤولية عن الأزمة ليست للمودعين الذين وضعوا أموالهم في المصارف وفق القوانين النافذة، ولا للمصارف التي أُجبرت على الاعتماد على السيولة المتاحة لديها، بل هي بالدرجة الأولى للدولة ولإدارة مصرف لبنان، اللذَيْن أدخلا البلاد في عجز متراكم من خلال سياسات مالية ونقدية خاطئة، وتراكمت الخسائر من دون أي مراعاة للقدرة على السداد أو الحفاظ على الثقة بالنظام المالي.
في المقابل، تحاول القوانين الجديدة تحميل العبء للمودعين والمصارف، عبر آليات سداد طويلة ومعقّدة، وشطب جزئي للودائع، ما يجعل من هذه الإجراءات بمثابة إضفاء صبغة قانونية على أزمة نشأت بفعل سوء إدارة وسياسات الدولة نفسها.
وفق هذا المنظور، تبدو الحاجة ماسّة إلى إعادة النظر في النهج التشريعي المتّبع، لحماية حقوق المودعين وضمان استمرار المصارف، مع تحميل المسؤولية الحقيقية لأصحابها، بدل تحميل الفئات الأضعف في الاقتصاد عبء الأخطاء التي لم ترتكبها.
وفي هذا الإطار، حذّر الخبير الاقتصادي منير راشد، عبر موقع “هنا لبنان”، من أنّ مشروع قانون الانتظام المالي واسترداد الودائع، إلى جانب قانون إصلاح المصارف رقم 23، لا يشكّلان حلًّا للأزمة المصرفية في لبنان، بل يضعان القطاع المصرفي والمودعين على مسار إفلاس مُقنّع وشطب منظّم لمعظم الودائع، تحت غطاء تشريعي يفتقر إلى الواقعية المالية والدستورية.
وأوضح راشد أنّ المشروع المطروح يُحمّل المصارف أعباءً ماليةً تفوق قدرتها الفعلية، إذ يفرض عليها تأمين السيولة اللازمة لسداد أوّل 100 ألف دولار لكلّ مودع خلال السنوات الأربع الأولى، بقيمة تقارب 28 مليار دولار، على الرغم من أنّ أموال المصارف نفسها محتجزة لدى مصرف لبنان. ويُضاف إلى ذلك إلزام المصارف بتمويل 20% من الشهادات المالية التي سيُصدرها مصرف لبنان لتغطية ما تبقّى من الودائع، بما يوازي نحو 10 مليارات دولار، فضلًا عن متطلّبات إعادة الرسملة وفق معايير “بازل 3″، والتي تحتاج إلى ما لا يقلّ عن 8 مليارات دولار إضافية.
وبحسب راشد، فإنّ مجموع ما يُطلب من المصارف توفيره خلال خمس سنوات يتجاوز 36 مليار دولار، في حين لا تتوافر لديها اليوم أكثر من 2 إلى 3 مليارات دولار من الأصول السائلة، ما يجعل تطبيق القانون مستحيلًا من الناحية العملية.
في المقابل، يُعفي المشروع مصرف لبنان والدولة من أي مسؤولية مباشرة، على الرغم من أنّ السيولة الفعلية لا تزال متمركزةً لدى المصرف المركزي.
وأشار راشد إلى أنّ جوهر الأزمة يتمثل في تخلّف مصرف لبنان عن الإيفاء بالتزاماته تجاه المصارف، وهو أمر لا يمكن اعتباره “خسارةً” بالمعنى المحاسبي، بل نتيجة إنفاق الدولة والمصرف المركزي من دون مراعاة القدرة على السداد. وبالتالي، فإنّ اعتماد مبدأ “تراتبية الخسائر” في المشروع الحالي يأتي بصورة استنسابية وغير عادلة.
مخالفات دستورية وثغرات قانونية
وأكد راشد أنّ مشروع القانون يتعارض مع المادة 15 من الدستور اللبناني التي تحمي الملكية الفردية ولا تُجيز تقييدها إلا للمصلحة العامة وبمقابل تعويض فوري وعادل، كما يتناقض مع قانون النقد والتسليف في معظم مواده. فبدل تحقيق أهدافه المُعلنة، يعتمد المشروع على شطبٍ عشوائيٍّ لما يقارب 30 مليار دولار من الودائع، قبل تحْويل ما تبقّى إلى شهادات مالية ذات عائد سلبي فعلي.
وأوضح أنّ مصرف لبنان يلتزم، وفق المشروع، بسداد ما لا يتجاوز 2% سنويًّا من القيمة الاسمية لهذه الشهادات، على مدى يمتدّ بين 10 و20 سنة، ما يعني أنّ مجموع ما سيُسدَّد خلال أول 14 سنة لن يتعدّى 20% من أصل الودائع، أي نحو 10 مليارات دولار من أصل التزامات تناهز 80 مليار دولار. وأضاف أنّ هذه النسبة ليست فائدةً بل تسديدًا جزئيًا، يتناقص فعليًّا مع مرور الوقت، ما يؤدّي إلى تراكم الخسائر على حساب المودعين، خصوصًا كبار السنّ الذين لا يملكون ترف الانتظار لعقود.
ضربة للطبقة الوسطى والاقتصاد
وشدّد راشد على أنّ المتضرّر الأكبر من هذا المشروع هو أصحاب الودائع المتوسطة والمرتفعة، الذين يشكّلون العمود الفقري للحركة الاقتصادية والاستثمارية. فالمودع الذي يملك 200 ألف دولار، على سبيل المثال، سيتقاضى مبالغ شهرية متدنّية تفقد قيمتها الشرائية تدريجيًا، ولن يستعيد فعليًّا سوى جزء محدود من أمواله بعد سنوات طويلة. أمّا أصحاب الودائع الأكبر، فسيواجهون تراجعًا سنويًا مستمرًّا في قيمة ما يتقاضونه. كما انتقد راشد تجاهل المشروع لودائع الشركات الخاصة، وصناديق النقابات والضمان الاجتماعي، على الرغم من دورها الأساسي في توفير السيولة وتحريك الاقتصاد، إضافة إلى إغفال معالجة الخسائر الناتجة عن الودائع بالليرة اللبنانية.
واعتبر أنّ افتراض قدرة المصارف على سداد عشرات المليارات عبر وسائل غير نقدية، كالبطاقات المصرفية أو الشيكات، هو افتراض غير واقعي في ظلّ غياب السيولة والثقة. وتساءل: إذا كانت هذه الوسائل كافيةً لضمان حقوق المودعين، فلماذا لا تُستخدم فورًا لسداد كامل الودائع؟
بديل عملي لاستعادة الثقة والسيولة
وفي المقابل، قدّم راشد مقترحًا بديلًا للخروج من الأزمة، معتبرًا أنّ الحلّ لا يكمن في شطب الودائع بل في استعادة الثقة وضخّ السيولة. ودعا الحكومة ومصرف لبنان إلى التراجع عن هذا المشروع، والانتقال فورًا إلى تحرير وتوحيد سعر الصرف، وإلغاء السعر الرسمي غير الواقعي. واقترح تأمين سيولة فورية للمودعين لا تقل عن 20 إلى 25% من ودائعهم بالدولار “اللولار”، وتحويلها إلى ودائع بالدولار النقدي، وهو مبلغ متوافر لدى مصرف لبنان، بحسب قوله. أمّا الجزء المتبقي من الودائع، فيُعاد تصنيفه كودائع ادّخارية بالدولار داخل المصارف. كما دعا إلى الاستمرار بتطبيق التعميم 158 لمن يرغب، لتأمين حاجات أصحاب الودائع الصغيرة، وتشجيع استخدام وسائل الدفع المصرفية بعد توفّر السيولة. واعتبر أنّ مصرف لبنان لا يحتاج سوى إلى بضعة مليارات لتغطية نفقاته الأساسية، ما يجعل هذا الخيار قابلًا للتنفيذ فورًا.
وختم راشد بالتأكيد أنّ هذا المسار البديل كفيل بإعادة السيولة والثقة سريعًا، ويشكّل حلًّا أكثر عدالةً وإنصافًا للمودعين والقطاع المصرفي والاقتصاد اللبناني ككل.
أنطوان فرح: قانون “بيع الأوهام”
من جهته، يرى الخبير الاقتصادي أنطوان فرح أنّ مشروع قانون “الفجوة المالية” كان من القوانين المفصلية التي تمسّ مصير البلد والناس، وكان يفترض أن يُقارَب بمنتهى الجدّية والمسؤولية، لا أن يُقَرَّ بأكثريةٍ هزيلةٍ داخل مجلس الوزراء. ويؤكّد فرح أنّ هذا المشروع يرتقي إلى مرتبة القوانين التي يفرض الدستور إقرارها بأكثرية الثلثين، لا بالأكثرية العادية، خصوصًا أنه يحدّد مسار النظام المالي والاقتصادي لعقود مقبلة.
ويشير إلى أنّ إقرار المشروع بـ13 وزيرًا فقط، مقابل اعتراض 9 وزراء يمثلون القوى السياسية الأساسية، لا يشكّل فقط مخالفةً دستوريةً واضحةً، بل يعكس أيضًا خللًا فادحًا في المنطق والعدالة والحدّ الأدنى من المسؤولية الوطنية. فالدولة التي أهملت، وهدرت، ونهبت المال العام، تعود اليوم – بحسب فرح – لتحمّل الشعب والمودعين تحديدًا مسؤولية سدّ فجوة مالية لم يكونوا سببًا في نشوئها.
أهداف ضائعة وضرب لأسس القطاع المصرفي
ويشرح فرح أنّ الهدف الطبيعي لأي قانون يتناول الأزمة المالية كان يجب أن يتمحور حول ثلاثة عناوين أساسية: إعادة الودائع إلى أصحابها، ضمان استمرارية القطاع المصرفي، وتهيئة الأرضية اللازمة لنهضة اقتصادية حقيقية. إلّا أنّ مشروع قانون الفجوة المالية، بصيغته المطروحة، أخفق في تحقيق أي من هذه الأهداف.
فودائع المودعين، بما فيها ودائع صغار المودعين، تبقى غير مؤمّنة، في ظل غياب رؤية واضحة وجدول زمني ملزم لإعادتها. كما أنّ تحميل المصارف أعباءً ضخمةً قد تفوق قدرتها على التحمّل يضع استمرارية القطاع المصرفي نفسه موضع شكّ، بدل أن يُعيد بناءه على أسس سليمة.
ويحذّر فرح من أنّ فقدان الثقة، سواء من الداخل أو الخارج، سيؤدي حكمًا إلى جعل الاقتصاد اللبناني والقطاع المالي غير جاذبين لأي استثمار، ما يقضي عمليًا على أي أمل بانتعاش اقتصادي في المدى المنظور.
“الهيركات” بأسماء مختلفة… والبدائل موجودة
ويؤكّد فرح أنّ أموال المودعين باتت في دائرة الخطر، وأنّ ما جرى تسويقه للمواطنين لا يعدو كونه “خديعةً كبيرةً وبيع أوهام”، بصرف النظر عن التسمية المعتمدة، سواء سُمّي “هيركات” أو أُخفي خلف مصطلحات تقنية أخرى.
في المقابل، يلفت إلى أنّ البدائل موجودة وواضحة، لكنّها تتطلب قرارًا سياسيًا شجاعًا. وفي مقدّم هذه البدائل:
أولًا، استثمار القطاع العام، عبر تحويله من عبء دائم وخسائر مزمنة إلى قطاع منتج ورابح، قادر على تأمين إيرادات حقيقية للدولة تساهم في معالجة الأزمة بدل تعميقها.
ثانيًا، احتياطي الذهب، الذي تبلغ قيمته نحو 43 مليار دولار. ويشدّد فرح على أنّ المطلوب ليس بيع الذهب، بل الاستفادة منه بطريقة مدروسة، تسمح بتسديد جزءٍ من التزامات الدولة تجاه مصرف لبنان، ما يتيح بدوره للمصرف المركزي الوفاء بالتزاماته تجاه المصارف، وبالتالي جعل إعادة أموال المودعين مسارًا فعليًّا لا مجرّد وعود فارغة.
ويختم فرح بالإشارة إلى أنّ حاكم مصرف لبنان نفسه كان قد عبّر بوضوح عن تحفّظاته على مشروع القانون، القائم على “بيع أوهام” والذي يفتقر إلى أرقام دقيقة وتوضيحات شفّافة، وهو ما يزيد من الشكوك حول جدّيته وقدرته على إخراج لبنان من أزمته المالية الخانقة.




