الفيدرالية: “إن اللبيب من الإشارة يفهم!”

الفيدرالية

ترجمة “هنا لبنان”

كتب أنطوان قربان لـ “Ici beyrouth“:

دعا البطريرك الماروني بشارة الراعي لتطبيق اتفاق الطائف بشكل صارم، وتحديداً بند اللامركزية الإدارية، ولاعتبار “الفيدرالية طرحًا أو مقولة ساقطة”. كلام الراعي أتى خلال استقباله وفداً من “منتدى التفكير الوطني” في 13 نيسان، بمناسبة ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، ولكن ما الذي يعنيه حقاً مصطلح “الفيدرالية” على النحو الذي أشارت إليه فيه الأوساط المسيحية بشكل خاص؟

في معرض تناوله هذا الموضوع مؤخراً، أشار فريديريك خير إلى أن بعض القوى السياسية ولا سيما المسيحية منها تلجأ دوماً لطرح الفيدرالية، كلما واجه المسؤولون المنتخبون مأزقاً يمنعهم من الوفاء بالوعود العظيمة التي قطعوها لناخبيهم. ويقودهم هذا المأزق على حد تعبيره، للانغماس في التصعيد حول ديماغوجية الهوية الشعبوية. وبالتالي، تستحيل الفيدرالية أيديولوجية حصرية.. كنوع من الفكر الخاص الذي يرفض أي معارضة من أي محاور مسيحي تحت طائلة اتهام هذا الأخير على الفور بـ”الذمية”. ويقصد بهذا المصطلح المستخدم بشكل مفرط، التهاون والخضوع في السابق للمطالب الإسلامية، بشكل قد يلحق الضرر بمشهدية “الدفاع عن المصالح المسيحية” التي تصورها بعض القوى السياسية. وهكذا، يجد المواطن اللبناني نفسه على الدوام، عرضة للاتهام بخيانة “قضية” الفريق الذي ينتمي إليه كما العائلة: فهو إما “ذمي” في الأوساط المسيحية، وإما “مرتد” وهدف للإبعاد في البيئة الإسلامية. لا يرى فريديريك خير أي فرق بين الخطاب السياسي الذي ينتهجه التكفيريون الإسلاميون وذلك الخاص بالمؤيدين المسيحيين للفيدرالية الراديكالية. في كل الأحوال، وقبل الانخراط في جدل غير مجد، لا بد من محاولة فهم معنى الحديث. وقبل أي شيء، لا تعتبر الفيدرالية فرضية شيطانية بشرط فهم ما تعنيه بشكل صحيح.

ويعيد أصل الكلمة باللاتينية ( foederare) إلى الأذهان فكرة الاتحاد من أجل التآزر المتبادل لصالح الجميع. وفي الإمبراطورية الرومانية، حصلت القبائل البربرية التي سكنت الضواحي على الوضع العسكري “الفدرالي” لأنها خدمت في الدفاع عن الحدود. وعلى الرغم من أن المفهوم يفسح المجال للعديد من التفسيرات، إلا أن مشروع الإتحاد ينضوي على قاسم مشترك يتمثل في شرطين أساسيين: لا بد من توفر العنصر العددي الكبير ومن ثمّ، من وجود الرغبة المشتركة بالإتحاد من ناحية أخرى. كيف ذلك؟ يزخر التاريخ بمجموعة متنوعة من النماذج.

وبيد أن كل الاتحادات الفدرالية قد لا تتبع النمط نفسه، تتميز جميعها، من ناحية أخرى، بعدم إضعاف الدولة المركزية التي تشكل العنصر الموحّد. لعل هذا ما دفع بالفيلسوف الفرنسي شاتوبريان لأن يعتبر بشكل ساخر أن نظام الولايات المتحدة أحد الأشكال السياسية الأكثر شيوعًا والمستخدمة لدى المتوحشين. وفي فرنسا مثال آخر حيث لطالما اتُهم الجيرونديون بدعم الفيدرالية من أجل تفكيك الوحدة الوطنية.

الولايات المتحدة الأميركية فيدرالية ذات دولة مركزية قوية بشكل خاص. ومن ناحية أخرى، ليست المملكة المتحدة دولة فيدرالية ولكنها اتحاد كيانات سياسية تعترف بنفس الملك، كرمز للوحدة، على رأس الدولة.

ومن الأمثلة من الجانب الروسي، بعد اختفاء الاتحاد السوفياتي وبغية محاربة المركزية المفرطة، شكلت روسيا دولة اتحادية تتألف من 21 جمهورية خاضغة للحكم الذاتي و 6 أقاليم، و 50 منطقة، ومدينتين اثنتين ذات وضع اتحادي (موسكو وسانت بطرسبرغ) و 10 مناطق تتميز بالحكم الذاتي.. وتندرج كل هذه المكونات تحت إطار “الرعايا” على الرغم من أن الدولة الفيدرالية ليست ملكية. ومنذ وصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى أعلى سلم السلطة، شهدنا تحديثًا مفرطًا للمركزية حول الكرملين. يؤكد هذا التطور على أن لا شيء نهائي في حياة الدول.

وتتميز بعض الاتحادات الحالية بتعداد سكاني متجانس نسبيًا. أما البعض الآخر فقد يضم مجموعات سكانية مختلطة، لا يُعترف بتنوعها العرقي -اللغوي أو الديني مؤسسيًا. ومن ناحية أخرى، يعنى آخرون بإعادة إنتاج هذا التنوع دستوريًا، على غرار كندا أو بلجيكا أو الهند أو سويسرا.

على سبيل المثال، كانت بلجيكا دولة اتحادية لامركزية حتى العام 1970. وبين العامين 1970 و 1993 ، تطلب الأمر ما لا يقل عن ستة إصلاحات دستورية للوصول إلى دولة اتحادية يعرفها الدستور على أنها تتكون من مجتمعات ومناطق. وهكذا ترتبط الكيانات الفيدرالية بعنصرين متداخلين: السجل الإقليمي وسجل المجتمع اللغوي. المثال البلجيكي دقيق حتى لو بدا من الصعب فهمه. ولا بد وأن يتوقف الفدراليون اللبنانيون لتأمل عملية الانتقال بين الدولة الموحدة التي تعتمد اللامركزية والدولة الفيدرالية، ولينشغلوا بإقامة الدولة الموحدة اللامركزية التي نص عليها اتفاق الطائف، قبل نعت الفيدرالية بأنها حلم للفصل العنصري.

الفيدرالية تجمع وتقوي الكيانات التي تتكون منها بفضل الدولة المركزية التي تضمن الوحدة الوطنية. إذن ما هي المشكلة اللبنانية التي يتطلب حلها تفكيك الدولة الموحدة لصالح فيدرالية لا تقوم على الجغرافيا بل على الهويات الجماعية العرقية والمذهبية؟ يمكن للمرء أن يعتبر أن الأمر الواقع الذي فرضه حزب الله قد خلق حالة من الانفصال الفعلي لبعض المناطق اللبنانية التي تسيطر عليها الأغلبية الشيعية الخاضعة لحركة أمل وحزب الله. ولكن هل يتطلب ذلك تجزئة البلاد؟ ألا ينبغي معالجة هذه المشكلة أولاً بقانون انتخابي أقل شراً وظلمًا من قانون 2018؟

الفيدرالية بالمعنى المقترح اليوم هي دعوة لتجزئة لبنان إلى كيانات هوية وطائفية.. أما رسالة لبنان، ككيان عالمي للوحدة ولثقافة الحرية، فلن تصمد أمام مثل هذا الاحتمال الذي سيترجم بإنشاء غيتوات.

يمكن تلخيص ما أراد البطريرك الراعي قوله في 13 نيسان/أبريل الماضي على النحو التالي: الدولة الموحدة اللامركزية هي أثمن ما هو متاح لنا حالياً ولسنا مستعدين للمغامرة بخوض فيدرالية زائفة تفرقنا ولا تقوينا. فلنسعَ لتمكين البلد ولإحياء الدولة الموحدة اللامركزية كما نص عليها اتفاق الطائف. ولنترك الباقي للزمن.. لكل آن أوان ومع الوقت، قد نرى شكلاً من أشكال الفيدرالية في لبنان.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us