لماذا تستمر الشعوب العربية في الاقتتال؟

لا يوفّر جمر الصراع الداخلي المستعر تحت الرماد أي دولة عربية! وبما أن المواجهة هي القاعدة، لا تعدو فترات التهدئة كونها أكثر من هدنات قصيرة يفرضها سحق أحد الخصوم أو استنفاد قدراته. والخطأ يكمن في مجتمعاتنا التي لم تنجح، بعد أن قامت بنسخ نموذج الحكم “الغربي”، باستيعاب مفهوم الدولة “المدينة” (polis). وبالنتيجة، ستبقى هذه المجتمعات أسيرة رحلة دموية. اليوم، دقت ساعة السودان، فعلى من يحين الدور غداً؟

لماذا نشبت حرب أهلية في السودان ولماذا يرجح تجدد الصراع، الهامد حالياً، بمجرد انسحاب القوات الأجنبية؟ والسؤال نفسه ينطبق على لبنان، الذي يختبر فترة هدنة قصيرة، والذي يضجّ تاريخه الحديث والمعاصر بمواجهات وخصومات على مدى عقود، بغض النظر عن فترات وقف إطلاق النار والهدنة التي تخللتها. وما الذي عساه كان سيحل بالأردن لولا تيقظ السلطة وضرباتها الرادعة ضد مصادر التهديدات المحتملة؟ علينا أن نتقبل أن المواجهة العنيفة هي القاعدة في العالم العربي وأن السلاح نفسه هو الذي يرسي، حين ينتصر، فترات من السلم الأهلي، تصبح هي بالتالي الاستثناء للقاعدة العامة للاقتتال المستمر.

ففي محيطنا، لا تعدو فترات التهدئة كونها أكثر من هدنات قصيرة يفرضها سحق أحد الخصوم أو استنفاد قدراته، أو حتى تمليها علينا مجموعة من الدول. ذلك أنه يخيل للمرء أن البلدان الواقعة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لا تفقه ما هو أفضل من ذلك، بموازاة الخطأ في تقييم أدائها في ظل القيم الديمقراطية التي تميّز العالم الغربي ودول شمال الأطلسي.

الاستثناء اللبناني

لا يوفّر جمر الصراع الداخلي المستعر تحت الرماد أي دولة عربية، ولبنان ليس استثناء، مع فارق بسيط وهو “أننا نتفاوض في ذروة القتال”. ولا يبدو أن ذلك ينطبق على سوريا، حيث تقتضي النية تحجيم الخصم دون ترك مجال للتنازلات والتسهيلات. ولم يغفل جيرار شالياند عن ملاحظة استمرار التقليد السائد بين دمشق وحلب والذي يرفض أي تقاسم للنصر، على الرغم من وجود بعض الأوساط المستنيرة.

وبغض النظر عن هذا الاختلاف، هذا لا يعني أن بلاد الأرز لا تعرف العنف الذي يحكم المنافسة على مستوى الدولة. وهذا ما سعى دومينيك شوفالييه لتسطيره، تساءل عما إذا كان استمرار السمات الأساسية لمجتمع جبل لبنان في القرن التاسع عشر (البيئة الأسرية والقرية أو الزراعة الجبلية في منطقة البحر الأبيض المتوسط ​​أو نظام الضرائب العثماني أو التشريع الإسلامي) قد يحكم على هذا “المجتمع” بتطور مضطرب وبطيء للغاية. ويعتمد هذا الاضطراب، وفقًا لشوفالييه، على الديموغرافيا، “المقياس الأول الذي يسمح باكتشاف ديناميكية المجتمعات المختلفة، في سياق علاقاتها مع الخارج وفي الداخل، في ظل موقعها الجغرافي”.

وتنطبق هذه الدروس المستقاة من تاريخ جبل لبنان على لبنان بحدوده في العام 1920، إذا ما نظرنا على ما عرفه من نجاحات وخلافات واضطرابات على مدى قرن.

نزاع هويات؟

في معرض تعليقه على كتاب سمير قصير حول الانقسام الأهلي الذي تطور إلى صراع، اعتبر فرانك ميرمير أنه في “تعارض مع الفكرة الشائعة التي تعتبر أن الحرب اللبنانية التي اندلعت في العام 1975 هي مجموعة من “الحروب”. وسلط هذا الكتاب الضوء على فكرة “جولات الحروب” أو “الحروب الهجينة”.. كلمات تذكّر بصيغة غسان تويني الشهيرة: “حرب من أجل الآخرين” التي استخدمها لوصف مسرح الاشتباكات بين الأشقاء في لبنان.

وقبل سمير قصير وغيره من الكتّاب بوقت طويل، دعا كمال صليبي لتعلم الدروس من الحرب. كان يعتقد بإمكانية ربط الصراع الأهلي الذي عصف بنا في 1975 و 1976، بتعريف الهوية اللبنانية. هل لبنان دولة عربية وإلى أي مدى؟ ووفقاً لصليبي، إذا كان المسيحيون وتحديداً الموارنة منهم، يتوقون لرؤية بلدهم كوطن مسيحي مفتوح على العالم الغربي، فإن المسلمين قد أظهروا بشكل عام تضامنًا بلا حدود مع القضايا العربية، على حساب السيادة الوطنية اللبنانية إلى حد ما. كانت الهوية الوطنية، من وجهة نظره كمراقب، هي نقطة الخلاف.

وإذا اعترفنا بأن صليبي كان محقًا في زمنه، فهل يعني ذلك أن تفسيره ما زال صالحاً اليوم؟ بالكاد! لأن الخلافات قد قلبت الموازين وغيرت الرهانات: يا لها من تقلبات في التحالفات واضطراب في القناعات! من كان ليظن في العام 1975 أن شعار العروبة سيفسح المجال لشعار ولاية الفقيه كموجه لتعبئة السكان غير الراضين؟

إنما هي ذريعة!

ليس اختيار منظور العنف السياسي لتحليل الشرق الأوسط بالجديد. ولكن هل تساءل أي كان يومًا عن تفسيرات أخرى لصراعاتنا الداخلية، باستثناء الأيديولوجيات العدائية والمصالح الطبقية والهويات التي لا يمكن كبتها؟ ماذا لو كانت الشعارات التي لطالما رفعناها هي في الحقيقة مجرد أعذار أو ذرائع لافتعال شجار؟

يمكننا تعلم المزيد من خلال إلقاء نظرة سريعة على تاريخ الإغريق في الفترة الكلاسيكية. بالنسبة لنا، على غرارهم، الحرب أمر طبيعي، فهي تعبير طبيعي عن التنافس الذي يحكم العلاقات بين الجماعات “الغيورة من استقلالها والحريصة على تأكيد سيادتها”. كما يحتمل أن نجد لهذا المفهوم الصراعي في منطقة المشرق، جذوراً راسخة في روح الجاهلية البطولية، في عصر الشاعر والفارس عنترة والمهلهل على سبيل المثال، كما في الممارسات المؤسساتية للعصر المملوكي، والتي انتقلت بشكل كبير في العصر العثماني.

الحقيقة هي أننا لم نستوعب مفهوم دولة “المدينة” (polis) وتنظيمها القضائي كي نتمكن من أن “نحكم وننظم العلاقات بين المجموعات المختلفة باسم الدولة؛ لا توجد حدود واضحة بين الانتقام الشخصي والحرب.. بين أولئك الذين يتخذون التدابير بأبعاد انتقامية لجعل الناس يدفعون ثمن جريمة دموية أو غارة على الماشية أو خطف امرأة أو حملة حربية.. يكمن الاختلاف في حجم الوسائل وفي مدى تعبئة التضامن، لكن الآليات الاجتماعية والمواقف النفسية هي نفسها. وبالتالي، لا تظهر الحرب في هذا السياق إلا كأحد جوانب التفاعل بين العائلات، وأحد أشكال التجارة بين المجموعات البشرية، المرتبطة والمتعارضة على حد سواء”.

ستستمر مجتمعاتنا في السير على الطريق الدموي، طالما أنها استنسخت النموذج الغربي دون استيعاب فكرة الدولة.. وبغض النظر عن الذريعة، لن تتوقف شعوبنا عن الاقتتال!

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us